ولد محمد صلي الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وعاش بها معظم سنوات عمره إلي أن تركها مهاجراً إلي يثرب، وكانت حياته بها قبل البعثة النبوية مختلفة عما درج عليه الكثيرون من شباب القبائل العربية، التى كانت مكة وطناً لهم، وشاءت إرادة الله تعالي أن يحفظ محمداً صلي الله عليه وسلم طفلاً وشابا، حتى كان الإعلان عن بعثته عندما نزل عليه الوحي في غار حراء، القريب من مكة، بعد مرحلة طويلة من التأمل والتفكير، وبعيداً عن الناس، وحيداً في الغار، الذي كان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، دون أن يستحوذ عليه الإعجاب بالدنيا بالشكل الذي يصرفه عن ممارسة الاقتراب من الله تعالي، بما تيسر له من بقايا ديانة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانت حياته صلي الله علية وسلم في مراحلها الأولي قبل الزواج غير منعزلة عن الواقع، أو منصرفة إلي أحوال الآخرة وإنما كانت حياة ذات طبائع خاصة، لا تصرفه عن هموم البيئة، ولا تقطعه عن التواصل الحميم مع الأحداث الكبيرة التى كانت موضع تفكير، واتفاق واختلاف، في هذا المجتمع الذي كان خاضعا لسلطان القبيلة، ولسائر الاعتبارات الأخري كعبادة الأصنام المتعددة، ووجود طائفة مستعبدة من الإماء والأرقاء، ببشرة سوداء، لا تسر – آنذاك – أحداً من الناظرين، ومن بين المشاركات بالفعل أو بالقول، والتي لا تغيب عن ذاكرة محمد صلي الله عليه وسلم، منذ أن بدأت مسيرة الأحداث إلي أن بعثه الله نبيا لسائر الخلق ما يأتي:
1- سلوكه صلي الله عليه وسلم في حرب الفِجار:
كانت حرب الفجار إحدي المعارك القبلية، التى دارت رحاها بين قبيلتي كنانة وقيس عيلان، وشاركت قريش فيها، وانحازت إلي قبيلة كنانة، وتمخضت هذه الحرب عن انتصار لكنانة علي قيس، وكان عُمر النبي آنذاك خمس عشرة أو عشرين سنة.
وذكر كاتبو السيرة أن حروب الفجارات في العرب أربعة منها: فجار البراض ، و به يوم يسمي يوم الشرب وهو أعظمها، وقد حضره الرسول، وشارك فيه بمعاونة أعمامه علي قبيلة قيس، كما أن أيام القتال في هذه الحرب كانت كثيرة، و النتائج – غالبا- غير حاسمة، ولذلك تذكر الأحداث بإطالة ويكثر الادعاء والفخر فيها.
ولم تترك المشاركة للرسول في هذه الحرب أثراً في نفسه، أو تأثيرا في غيره، فبقي مصانا محفوظا، وخاليا من أية تبعات تلحق بسيرته في الجاهلية، والتى بقيت معطرة إلي أن هبط عليه جبريل عليه السلام بالوحي الكريم.
2- الإشادة بحلف الفضول:
كان حلف الفضول بعد حرب الفجار بعدة أشهر، وذلك قبل المبعث النبوي بعشرين سنة، وقد تحالفت فيه بعض القبائل، بحيث يكونون يداً واحدة مع المظلوم علي الظالم، وشهد الرسول بني هاشم وزهرة وتيما، وهم يجتمعون في دار عبد الله بن جُدعان بمكة، حيث تعاهدوا وتحالفوا علي حماية الضعفاء المظلومين، وذُكرت أسباب كثيرة لانعقاده، وإن كان الهدف منه واحدا ً ومتقاربا، وقيل إن تسميته بذلك، لأن الداعين إليه كانوا ثلاثة من أشراف العرب، واسم كل واحد منهم ( فضل) وقد رفع هذا الحلف من منزلة قريش بين القبائل العربية، وتحدث الرسول صلي الله عليه وسلم عنه فقال :" لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حُمْرَ النعم، ولو أدعي به في الإسلام لأجبت" (1)
وليس للرسول في هذا الحلف مداخلات أو تعقيبات، إذ لم يكن عمره آنذاك يخول له أن يدلي برأي فيه، ولكنه رضي به، وذكره في حديثه وأشاد به لما فيه من دعوة إلي السلام الاجتماعي وحقن الدماء، ونبذ الحروب، والتقريب بين الفرقاء.
3- القدرة علي فض النزاع عند إعادة بناء الكعبة ورفع الحجر الأسود:
تذكر الروايات التاريخية أن الكعبة المشرفة قد تعرضت لحريق، عندما جاءت إليها امرأة تعطرها فانطلقت منها شرارة إلي الكسوة وإلي الأخشاب، ثم جرف السيل البناء، فتصدعت الجدران، ورأي المكيون ضرورة هدمها، وإعادة بنائها، ولكنهم اختلفوا في ذلك، إلي أن جاء سيل آخر، فجعل إعادة البناء أمراً محتوما، وشرعوا في هدمها، ووصلوا إلي حجارة خضر، فأبقوا عليها أساسا للكعبة، وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وقد أسهم الرسول صلي الله عليه وسلم في نقل الأحجار، لاستكمال البناء، حتى بلغ الارتفاع موضع الحجر، وكانوا يجمعون الأحجار، من الجبال القريبة من مكة، واختلفوا فيمن ينال شرف رفع الحجر الأسود، ليوضع في مكانه، حتى يكتمل البناء فوقه، ثم اتفقوا كما قال ابن هشام في السيرة النبوية علي لسان أبي أمية بن المغيرة، وكان يومها أسن رجل في قريش قال: " اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أَول داخل عليهم رسولُ الله صلي عليه وسلم، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهي إليهم، وأخبروه الخبر، قال صلي الله عليه وسلم: "هلم إليّ ثوبا، فأتي به، فأخذ الركن (الحجر) فوضعه فيه بيده، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده، ثم بُني عليه"(2) .
وقد جعلت هذه المعالجة للموقف بكامله من الرسول صاحب رأي نافذ، وأهلا للمشورة، واستحقاقا لأن يوضع في الاعتبار عند بروز أزمة أخري في مسيرة الأحداث بمكة المكرمة، كما دعم هذا الموقف أيضا اتصافه صلي الله عليه وسلم بالأمانة، وتلقيبه بالأمين واختياره لأن توضع الأمانات عنده، ولذلك عندما كانت الهجرة في مرحلة تالية جعل عليا ينام في بيته، ويحرس الأمانات، ويردها إلي أهلها بعد خروجه من مكة المكرمة.
4- خلق الأمانة:
لقد عرف الرسول صلي الله عليه وسلم في الجاهلية بالأمانة خاصة بعد عمله في التجارة واشتراكه مع عمه أبي طالب في الرحلة إلي الشام، وتحمله المسئولية في مال السيدة خديجة بنت خويلد، وجاء ذلك عرضا منها لمحمد صلي الله عليه وسلم، للخروج بمالها إلي الشام متاجرا، بحيث تعطيه أفضل مما تعطي غيره من التجار، وقبل هذا العمل، وأخلص فيه، وشهد عليه مرافقه في الرحلة (ميسرة) غلام خديجة، الذي أقر بما لمحمد من الأمانة والصدق والإخلاص، وكان ذلك فاتحة خير إذ أتاحت له سبل التقدم للزواج بها، وتحقق له الخير معها، ورزقه الله تعالي الولد منها دون غيرها من النساء، اللاتي تزوج بهن في مرحلة تالية، وقد كانت الأمانة التى اشتهر بها وتميز فيها سندا قويا له في حياته مع جده وأعمامه ومع غيرهم من القبائل العربية في مكة، فصارت حياته في ظل هذه الأخلاق نموذجا عربيا مشرفا لغيره من الرجال، الذين رأوا فيه ما يصلح للتأثر به والسير علي منهاجه.
5- الإخلاص في العمل:
بدأ ارتباط محمد صلي الله عليه وسلم بمزاولة العمل، منذ طفولته ونشأته في ديار بني سعد، حيث كانت إقامة مرضعته حليمة السعدية، فقد وُجّه إلي رعي الأغنام مع أخيه من الرضاعة ( عبد الله) وواصل العمل بالرعي، عندما استكمل نشأته في مكة إلي أن تحول إلي التجارة بعد ذلك، ولما بعث بعد الأربعين من عمره كان ذهنه مدركا لتاريخه مع هذا النشاط، فقد روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلــم :" ما بعث الله نبيا إلا رعي الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها علي قراريط لأهل مكة" (3) .
وقد اكتسب من هذه المهنة صفات حميدة أفادته في مستقبل حياته، مثل بحثه عن الأماكن المعشبة والآمنة التى يسوس فيها الأغنام، واليقظة في حراستها، وتأمين انتشارها مما يمكن أن يعترضها من ضرر وأذي واتساع الصدر، وخلق الصبر، وطول البال، وحسن الحيلة والأمانة، وهي الصفات التى انعكست مع غيرها علي حياته في المستقبل.
وعمل في مرحلة تالية من عمره بالتجارة، وهي مهنة لا تكتسب بين عيشة وضحاها، وبدأها تحت رعاية عمه أبي طالب، من خلال الرحلة إلي الشام، وكانت تجربة عملية مفيدة، خبر فيها كثيرا من نفوس البشر ورغائبهم في الكسب وزيادة الثروة المالية، واستفاد من ذلك الكثير، الذي تأهل به للارتقاء إلي العمل في أموال السيدة خديجة بنت خويلد، وحقق لها الكثير من المكاسب بصدقه وإخلاصه وأمانته، مما جعلها تدعم رغبته في التقدم للزواج منها.
6- عمق التأمل والتفكير:
كان زواج الرسول من خديجة بنت خويلد زواجا ميمونا مباركا، تلاقت فيه صفاته ورغباته مع اهتماماتها وشواغلها فأغناها بفكرة وصدقه وإخلاصه وأمانته عن الاحتياج إلي مشورة أحد من الرجال، كما كانت تفعل قبل الزواج منه، وكانت بالنسبة له فاتحة خير وارتياح حيث تمكن من إشباع اتجاهه إلي التأمل في بدائع صنع الله، وصار التفرغ لذلك متاحا بصورة أفضل عما كان عليه قبل الزواج،، فكان يمكث في البيت أياما كثيرة يعيش فيها مع التأمل العميق، الذي يتحول إلي نشاط ذهني وتفكيري يقنع به أحيانا، وقد لا يصل إلي الحقيقة، خاصة في مسألة عبادة قومه للأصنام، التى ينهزمون أمامها، أو يقدمون لها من القرابين ما يعجز عن فهمه، وقد أكرمه الله تعالي فلم يسجد لصنم منها، وبقي ذهنه شاردا لم يرتو ظمؤه بشأن الوصول إلي كثير من الحقائق، وكان من عادات العرب أن تنقطع طائفة من مفكريهم إلي العبادة في أيام معدودة يفضلونها في خلوة بعيدا عن الناس، " يتقربون إلي ألهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم، يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة : التحنف والتحنث" (4) .
وتحول الرسول من الخلوة في بيته إلي مكان خارج مكة، وهو غار حراء، حيث كان يذهب إليه كل عام يقضي به شهر رمضان يخلو فيه إلي نفسه، ويتعبد به علي طريقته، ربما عن اعتقاد جاء إليه من بقايا ديانة سيدنا إبراهيم أو غير ذلك، وكانت هذه الخلوة تحقق له الراحة والرؤيا العميقة، خاصة أن احتياجاته من الطعام والشراب كانت متاحة بشكل يتيح له القدرة علي التواصل مع هذه النزعة القويمة، وبقي على ذلك حتى نزل عليه الوحي من السماء.
وهكذا كانت حياة الرسول نموذجا إنسانيا رائعا للحياة العربية في مكة قبل البعثة النبوية، فشهد التناحر بالسلاح في حرب الفجار، والقناعة والرضا بالصلح بين الفرقاء ، والإسهام في فض النزاع عند إعادة بناء الكعبة ورفع الحجر الأسود إلي مكانه، واتجاهه إلي العمل راعيا وتاجرا، واستغراقه في التأمل والتفكير، وتميزه صلي الله عليه وسلم بالأخلاق الحميدة التى فاق بها أقرانه، وارتقي بكل ذلك حيث انصرف إلي الخلوة والتأمل حتى نزل عليه القرآن الكريم.
دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com
(1 ) السيرة النبوية لابن هشام جـ1 ص 84 ، وحمر النعم: هي الغالي من الإبل والبقر والغنم.
(2) السيرة النبوية لابن هشام جـ 1 ص 119 .
(3) رواه البخاري، وقوله: علي قراريط أي علي عطاء قليل.
(4) حياة محمد – للدكتور/ محمد حسين هيكل ص 145 ( دار المعارف بمصر).