جاء الإسلامُ لينتقل بسائر الخلق خطوات فسيحات في سبيل التقدم الحضاري والتحول عن ظلمات الجهل إلى أنوار اليقين، وليست الدعوة إلى العبادة حاجزة الناس عن السعي في الأرض، بحثاً عن الرزق واكتساب القوت، فالإنسان القادر على العمل ليس مسئولا عن نفسه خاصة وإنما هو مسئول عن نفسه وعن سائر من تلزمه نفقتهم، إذ لا يصح له أن يكتفي بالعمل على قدر احتياجه، فمن أين يكتسبُ الصغير والضعيف والمريض أرزاقهم، وسائر أطعمتهم وأشربتهم.
لقد كانت دعوة الإسلام إلى العمل الدنيوي دعوة "صريحة مباشرة؛ لأن دين الله لا يعرف الكسل ولا التفرغ للعبادة، ولا التسول ولا اكتساب الرزق من طرق غير مشروعة.
وقد بلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن قدر استطاعته، في ظلال سيرته العطرة بما فيها من أحاديث نبوية وقدسية هادفة ونافعة لخدمة سائر البشر على الأرض، قال تعالى في الدعوة إلى التعانق بين العبادة لله والسعي في الأرض ومداومة الذكر.
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([1])، فقد جاءت الدعوة في هذه الآية إلى الانتشار في الأرض؛ لاكتساب الرزق، واستمرار الحياة، بين الدعوة لأداء الصلاة في أوقاتها المحددة، والمداومة على ذكر الله، كما في ختام الآية، وبهذا يكون العمل الدنيوي لاكتساب الرزق مقترنا بالعمل الأخروي، لإرضاء الله تعالى، وأن العمل إذا كان نافعا ومفيداً فإن الله سبحانه وتعالى ينميه ويباركه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يرضى عنه ويثني عليه، أما المؤمنون الذي يشهدون فعل الخير، ويستفيدون بنواتجه فإن ذكرهم الحسن محمود عند الله تعالى، وذلك ما يمكن فهمه من قول الله تعالى:
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).([2])
لقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معبأة بالنشاط والعمل والجهاد، خاصة بعد أن صار مهيئأ للمسئولية ورعاية المهام، فبدأ العمل صغيراً برعي الغنم فعن أبي هريرة رضي اله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بَعَث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط([3])، لأهل مكة"([4])، وعندما بدأت بواكير شبابه كان قتحامه لمجال التجارة مع عمه أولا، ثم استقل بنفسه في مرحلة تالية، حيث تاجر في مال السيدة خديجة بنت خوليد رضي الله عنها – قبل أن يرتبط بها زوجاً، وراعياً لمصالحها، ولمتطلبات ذريته منها، وبقى على ارتباطه بالعمل مع بداية الدعوة، ثم لم يلبث أن تخفف منه في ضوء المتغيرات الحياتية الجديدة.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعملون ويتاجرون، ويُسهمون في صناعة ما تحتاجه بيئة مكة أولا، وبيئة المدينة فيما بعد، فالإسلام يدعو إلى العمل الشريف، الذي يكتسب الإنسان به المال الحلال، لكن لا يُلزم الناس بعمل دون آخر، ونذكر في هذا الشأن قول الإمام علي كرم الله وجهه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول يارب، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا" وكانت حياة المسلمين الجديدة في طيبه الطيبة، مليئة بالنماذج المؤهلة لأن تحتذى في مقام التحرك إلى العمل واكتساب الرزق وإخراج ما يترتب على ذلك من صدقات كان المجتمع عند بدء تأثيث الدولة في أشد الاحتياج إليها، وشواهد التاريخ الإسلامي عامرة بالدعوات الصالحة التقية في الحضّ على العمل للدنيا والآخرة.
دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com
([1]) الجمعة 10
([2]) التوبة 105
([3]) على قراريط: اي عطاء قليل
([4]) البخاري.