كانت علاقة العباس بن عبدالمطلب بأهل مكة ذات موصفات خاصة، إذ لم يكن مثل أخيه حمزة الذي جاهر بإسلامه، وتحدى كبار الكفرة المعاندين، فبين العباس وسائر القرشيين ما يشبه الشعرة أو الخيط الرفيع ، الذي يحرص على بقائه واستمراره، وتحقق ذلك بسبب ما كانت له من سيادة محددة بحق البيت الحرام، وما كان لرواده والمرتبطين به من واجبات التقدير والإجلال .
ولقد ظهر ذلك بصورة أعظم وأروع فيما يخص أخْوة العباس، وبينه وسائر أهله، فكان حريصاً عليهم رؤوفاً بهم، ودوداً معهم؛ امتداداً للموروث القِيَمِي والتاريخ الحافل لبني هاشم، فإلى وقت قريب كان عبدالمطلب راعياً وخادماً للبيت الحرام بعون يستمده من حراسة الله تعالى للكعبة المشرفة، وتجلت المحبة بين الرسول والعباس في العديد من المواقف والكثير من الأقوال.
مولد العباس ونشأته :
ولد العباس بن عبدالمطلب بن هاشم في مكة قبل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات، وذلك عام واحد وخمسين قبل الهجرة على أرجح الأقوال، وأمه نُتيلة بنت جناب بن كليب إحدى زوجات عبدالمطلب، والتي لها منه –فضلا عن العباس- ضرار وقثم، فهي أم للثلاثة، كما كان للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعمام أشقاء أبيه وهم: الزبير وأبوطالب وعبدالكعبة، وأم هؤلاء الأربعة مع بعض البنات فاطمة بنت عمرو بن عائذ(1)، وربما لذلك دخل في كفالة أبي طالب للرسول صلى الله عليه وسلم فهو شقيق أبيه، وكنية العباس أبوالفضل، نسبة إلى أكبر أبنائه وهو الفضل(2).
وذكر الحافظ بن حجر أن العباس قد ضاع، وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فأوفت بما نذرت، فصارت أول من كسا البيت الحرير(3).
واستكمل العباس نشأته في رعاية أبيه وأمه، ومعية إخوته وأخواته، كما هو الشأن في مجتمع مكة المكرمة .
وتحدث ابن عبدالبر عن مكانة العباس في الجاهلية فقال: "وكان العباس في الجاهلية رئيساً في قريش، وإليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية، فالسقاية معروفة، وأما العمارة فإنه كان لا يدع أحداً يسبُّ في المسجد الحرام، ولا يقول فيه هجْراً، يحملهم على عمارته في الخير لا يستطيعون لذلك امتناعاً؛ لأنه كان ملأ قريش قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه وسلموا ذلك إليه"(4)، وقد ولي العباس زمزم والسقاية عليها بعد وفاة أبيه "عبدالمطلب" وأقره الرسول عليها في الإسلام(5).
وللعباس عشرة ذكور سوى الإناث ، منهم: الفضل، وعبدالله، وكان رضي الله عنه قريباً من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يحدث منه في الجاهلية ما يسئ إليه.
وقيل في أوصافه الخِلقية: "كان العباس جميلاً ذا ضفيرتين، معتدل القامة، وقيل: بل كان طُوالا... واستكمل ابن عبدالبر ما رواه عن غيره قال: "أردنا أن نكسو العباس حين أُسر يوم بدر فما أصبنا قميصاً يصلح عليه إلا قميص عبدالله بن أُبي"(6) ويبدو أن ابن أُبي كان طويلاً بصورة واضحة .
دور العباس في بيعة العقبة:
كان موت أبي طالب في عام الحزن إيذانا باحتياج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نصير من أقاربه يسنده فيما هو قادم عليه من عقد للبيعة مع الأنصار، الذين جاءوا إليه من يثرب، حتى يهاجر إليهم، وهو مطمئن لحمايته في ظلال الدعوة الإسلامية الجديدة، ولم يكن لذلك سوى العباس، الذي كانت له قدرة تفاوضية مع الآخرين، استقرت في أعماقه، ثم زادت فعالياتها بعد أن أُسندت له عمارة البيت الحرام وسقايته، مع إنه رضي الله عنه كان على دين قومه، لكن صيانة ابن أخيه والوقوف بجانبه في هذه النقلة القادمة لا يُقتصر فيها على أمر الدين الجديد، وإنما تتدخل فيها حقوق القرابة وأخلاق العرب، في شخص العباس بحق النبي صلى الله عليه وسلم وحانت ليلة البيعة، وخرج الأنصار، وهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان إلى العقبة(7) بعد انقضاء ثلث الليل، حيث خرجوا متسللين لاينبهون نائماً، كما أمرهم الرسول بذلك، وانتظروه حتى جاء إليهم ومعه عمه العباس، بينما استقر علي بن أبي طالب على فم الشعب، ووقف أبوبكر على أول الطريق لدواعي الحراسة والتأمين والحفاظ على الكتمان.
اجتمع الأنصار برئاسة سيدهم وكبيرهم البراء بن معرور، الذي آمن بدعوة الرسول قبل أن يراه، وكان العباس رضي الله عنه أول المتحدثين فقال: " يا معشر الخزرج –قال:(8) وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده"(9).
وتواصلت إجراءات أخذ البيعة وتوثيقها، وتدخل العباس في الحوار، مؤكداً حتمية التأمين للرسول بعد الهجرة، بما يكشف عن تميز العباس في هذا اللقاء، الذي عقد مع وفد الأنصار، قبل الهجرة النبوية.
العباس في غزوة بدر:
إن أول ما يتبادر إلى الذهن بلا لَبس في التأويل، هو أن العباس كان على دين قومه فلا يصح البتة أن يواجه الرسول وسائر الصحابة في قتال بين مسلم ومسلم، وأن من قال بإسلامه قبل الخروج إلى بدر، نظر إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم تعبيراً عن حبه للعباس ولسائر قومه قبل اشتعال أتون الحرب، قال: "من لقى منكم العباس وطالباً وعُقيلاً ونوفلا وأبا سفيان فلا تقتلوهم فإنهم أُخرجوا مكرهين"(10)، فالأمر بعدم القتل ليس لإسلامهم، وإنما لإخراجهم إلى الحرب كَرْهاً، وجاءت رواية شبيهة بما تقدم أوردها عبدالله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر: "إني عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لاحاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، من لقى العباس ابن عبدالمطلب فلا يقتله، فإنما أخرج مستكرهاً"(11).
وقد غضب حذيفة بن عتبة بن ربيعة من هذا التميز بحق أناس من بني هاشم، ولا يَسْرى على أقاربه، فالتقاه الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله عما قال، فأقره معتذراً، ثم حسم الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر وقال له بما أنهى غضبه: "إن أباك وعمك وأخاك خرجوا جادين في قتالنا طائعين غير مكرهين، وإن هؤلاء خرجوا مكرهين غير طائعين لقتالنا"(12) واشتد القتال، ووقع العباس مع بعض قومه في الأسر، إذ كان اشتراكه بصورة لا يُغضب بها أهل مكة ولا الرسول وأصحابه، وانتهت الغزوة، ووقع العباس أسيراً دون أن يصيب أحداً، أو يصاب من أحد، فقد كان أسره ومن معه من أقاربه –فيما نعتقد- سهلاً ميسوراً، وعاد المنتصرون إلى المدينة ومعهم الغنائم والأسرى، الذين أعدت لهم البيوت لاحتوائهم والتراحم معهم، ولم يكن العباس متميزاً عن غيره فيما يتصل بوسائل التأمين والحراسة ومن بينها شد الوثاق وزاد قلق الرسول صلى الله عليه وسلم على عمه، الذي يعلم تماماً أنه لم يخرج إلى القتال بإرادته، فالتمس العذر له، وسهر في الليلة الأولى مهموماً من أسره، ولم يذق للنوم طعماً، وتنبه له بعض أصحابه الذي قال: ما يسهرك يا نبي الله؟ فقال: أسهر لأنين العباس، فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم مالي لا أسمع أنين العباس؟ فقال الرجل: أنا أرخيت من وثاقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فافعل ذلك بالأسرى كلهم، وفَدَى العباس يوم بدر نفسه وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث"(13).
إسلامـــه :
يرتبط إسلام الكثيرين من الصحابة –رضوان الله عليهم- بموقف أو مناسبة محددة لكل واحد منهم، مثل خديجة بنت خويلد وعمر بن الخطاب وحمزة بن عبدالمطلب وغيرهم سوى العباس، الذي لم ترصد مسيرة الأحداث تاريخاً محدداً لإسلامه فقيل إنه أسلم قبل بيعة العقبة أو بعد الهجرة وقبل غزوة بدر أو بعدها، والأرجح أنه كان قبل فتح مكة، فهل يمكن للعباس أن يكتم إسلامه ست سنوات أو أكثر، ويَظهر للناس أنه على دين قومه دون أن ينكشف منه ما يشكك الناس في أمره؟ وهل يمكن أن يُخبئ محبته للرسول طوال هذه السنوات؟ ولكن ظواهر الأحداث في نطاق الرسول صلى الله عليه وسلم تؤكد أن العباس قد أسلم متخفيا مدة غير محددة قبل فتح مكة، وهذا الإخفاء كان الرسول على علم به، وارتضاه للعباس، حتى يبقى عيناً له بين قومه، وعلى جانب آخر كان هذا الإخفاء في صالح العباس من المنظور الاجتماعي والموروث التاريخي فله ارتباط وثيق بالبيت الحرام، ولا يريد التخلي عنه خاصة بعد وفاة أبي طالب، وهذا التعالق العباسي بالبيت الحرام هادئ وموصول، على أساس أنه على دين قومه، فلما اقترب الفتح المبين، وصار البيت الحرام مهيئاًً لقيادة جديدة فكان الوقت صالحاً للعباس لإعلان إسلامه والشروع في الهجرة .
وقال ابن الاثير: "أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه، وكان بمكة يكتب إِلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أخبار المشركين، وكان من بمكة من المسلمين يتقوون به، وكان لهم عونا على إسلامهم، وأراد الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مُقامك بمكة خير"(14).
ولم يكن إخفاء الإسلام في مكة قاصراً على العباس، إذ كان بعض المسلمين القلائل خاصة من بني هاشم لا يظهرون إسلامهم خوفاً من أبي لهب وبعض رجالات قريش، وإن كان للعباس شأن آخر، وأورد ابن سعد ما رواه عن غيره قال:"قال أبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاماً للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل(15)، وأسلمتُ، فكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال فتفرق في قومه، فخرج معهم إلى بدر وهو على ذلك(16)، ولكن الرواية غير مدعومة بأسانيد أخرى تحدد تاريخاً ثابتاً لبدء اعتناق العباس للإسلام.
شروع العباس في الهجرة واشتراكه في فتح مكة :
سبق البيان عن اعتناق العباس للإسلام، وبقائه في مكة دون أن يعلن عن ذلك، فلما أذن الله سبحانه وتعالى أن يتحول بعقيدته من الخفاء إلى الإظهار، خرج بأهله قاصداً المدينة المنورة فالتقى بالرسول صلى الله عليه وسلم عند الجُحْفَة(17) –وهو قادم مع أصحابه لفتح مكة- فاستقبله صلى الله عليه وسلم بالفرحة الغامرة وقال له: "هجرتك يا عم آخر هجرة" ويروى أنه قال له أيضاً:" أنا آخر الأنبياء وأنت آخر المهاجرين" وأرسل العباس أهله ومتاعه إلى المدينة وسعد بوجوده بين الرسول وسائر المسلمين القادمين لفتح مكة، فلما نزلوا بمَرّ الظهران أوقدوا النيران واستقبلوا أبا سفيان بن حرب، حيث اصطحبه العباس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأعلن إسلامه إشعاراً بقبوله لفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً.
العباس في غزوة حنين، وحصار الطائف :
لم يشهد العباس من غزوات الرسول إلا ما كان بعد فتح مكة، فقد شارك في حنين وحصار الطائف وتبوك، فبعد أن انتهى الرسول من فتح مكة تحول في شهر شوال من ذات العام إلى غزوة حنين، وكان العباس -رضي الله عنه- في معيته صلى الله عليه وسلم، وقد أعجب الكثيرون من المسلمين بكثرتهم في هذه الغزوة، وتملكتهم الثقة بالنفس، وقد فاجأتهم القبائل بالقتال فتراجع جيش المسلمين عن المواجهة موقنين بالهزيمة ومستسلمين لها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم صمد في مكانه، ومعه بعض أعوانه، وفي مقدمتهم العباس –رضي الله عنه- واستشعر الرسول صلى الله عليه وسلم الحرج، وأيقن أن الفرصة سانحة لإعادة التجمع وشحذ القوة وتحقيق النصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس وهو بين يدي الرسول: "ناد الناس –وكان رجلاًٍ صيِّتاً- نادٍ يامعشر المهاجرين –يامعشر الأنصار- فجعل ينادى الأنصار فخذا فخذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ناد يا أصحاب السمُرة "يعني شجرة الرضوان التي بايعوا تحتها" يا أصحاب سورة البقرة، فمازال ينادى حتى أقبل الناس عنقاً واحداً"(18) وتجمع المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقضوا على جيش المشركين، فتحقق النصر المبين، ثم اتجهوا إلى الطائف وحاصروها مدة إلى أن فكوا الحصار عنها، وأبدى العباس شجاعة فائقة أثناء ذلك .
حديث الرسول عن العباس وبنيه :
كان تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم للعباس لا حدود له، خاصة بعد أن استشهد حمزة ابن عبدالمطلب في غزوة أحد، ولم يبق للرسول من أعمامه مسلماً سوى العباس وقد صعد عليه الصلاة والسلام المنبر ذات مرة ثم قال : "أيها الناس: أيُّ أهل الأرض أكرم على الله؟: قالوا: أنت، قال: فإن العباس مني وأنا منه لا تؤذوا العباس فتؤذوني"(19) واعتبر الرسول أن العباس –بإسلامه- صار كأنه فتح جديد للإسلام، وامتداد لآل بيت عبدالمطلب، ولذا بقيت السنتان اللتان تليتا الفتح إلى وفاة الرسول بقيتا عامرتين بأنوار القرب واليقين، والنور الذي أضاء السبيل أمام الرسول والعباس، وكان أن تجلت فيوضات الرحمن على المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخذ يدعو للعباس وأبنائه، وكأنها أحاديث وداع، وتفويض الأمر لذات الله، والارتقاء بالعباس وأبنائه إلى درجات عالية من القرب للخالق الرحيم، ومن هذه الأدعية: "اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة، اللهم اخلفه في ولده"(20)، وأورد ابن عساكر قول الرسول: "العباس عمي وصِنْو أبي وبقية آبائي، اللهم اغفر له ذنبه، وتقبل منه أحسن ما عمل، وتجاوز عن سيئ ماعمل، وأصلح له في ذريته"(21).
وقد دخل العباس على الرسول وهو جالس بين أصحابه، فأوسع له أبو بكر، ليكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي تعقيباً على ذلك: "إنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل" وتحدث العباس في ذات الموقف مع النبي فخفض الرسول صوته، حتى إذا فرغ العباس من حاجته وانصرف فقال أبو بكر: "يا رسول الله حدثت بك على الساعة؟ قال: لا، قال: فإني قد رأيتك قد خفضت صوتك شديداً.
قال: " إن جبريل أمرني إذا حضر العباس أن أُخفض صوتي، كما أمركم أن تخفضوا أصواتكم عندي"(22)، وبقيت تجليات المحبة من الرسول لعمه باطنة وظاهرة، واستشعرها الصحابة رضوان الله عليهم، حيث انعكست على تعاملاتهم مع العباس ، واحتفائهم به على أفضل ما يكون التقدير والإجلال ، وذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد لحوقه بالرفيق الأعلى .
تقدير الصحابة للعباس رضي الله عنه:
لقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وهو راضٍ عن العباس ومقدر لجهوده، ومقر بما كان له من فضل فقال في حقه للصحابة: "هذا العباس عم نبيكم، أجود قريش وأوصلها "(23)، وأورد ابن عبدالبر عن بعض الرواة الثقة: "أن العباس بن عبدالمطلب لم يمر بعمر ولا بعثمان وهما راكبان إلا نزلا، حتى يجوز العباس إجلالا له، ويقولون: عم النبي صلى الله عليه وسلم(24)، ورُوى أن عمر رضي الله عنه كان إذا لحق بالمدينة قحط بسبب قلة المطر استسقى بالعباس، وفي عام الرمادة صعد عمر المنبر ومعه العباس وقال: "اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصِنو أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين"(25).
ثم دعا العباس فحمد الله وأثنى عليه، ودعا بنزول الماء، ثم دعا الناس بأدعية كثيرة فنزل المطر وأخصبت الأرض، وعاش الناس، واعتبر ذلك من باب الوسيلة إلى الله عز وجل والمكان منه(26).
وقال حسان بن ثابت في ذلك :
سألَ الإمامُ وقد تتابع جدْبنا *** فسقى الغمامُ بغرَّة العباسِ
عم النبي وصنو والده الذي *** ورِث النبيَّ بذاك دون الناس
أحيا الإلهُ به البلاد فأصبحتْ *** مخضرَّة الأجناب بعد الياس(27)
وقد عاش العباس بقية عمره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في أعلى درجات التقدير والإجلال من سائر الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً .
أوصاف العباس ومآثره:
تجلت الأخلاق العربية الأصيلة في العباس بن عبدالمطلب، ثم كساها بعظيم الخلال ورائع الأفعال التي استمدها من القرآن الكريم، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان واسع العقل سديد الرأي، ثرياً، كثير الأولاد، وصاحب مكانة رفيعة في قومه من خلال السقاية والعمارة للمسجد الحرام .
وتخلد تاريخ العباس عندما تصدق بداره على المسلمين، حيث ضمها إلى المسجد ليوسع بها عليهم مقدراً أهمية أن يكون ذلك نابعاً من إرادته الحرة، وليس فرضاً أو إزعاناً يتحتم الخضوع له، من خلال محاورات ومناقشات دارت بينه وبين عمر بن الخطاب فيما يتصل بدعوة العباس إلى التنازل عن هذه الدار.
وكان تاريخ العباس رضي الله عنه راسخاً ومستقراً في فكر الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى وهو يخاطب الناس في حجة الوداع، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "وإن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله"(28)، ذلك أن تحريم الربا ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية، وليس للعباس نوع خاص من التعامل الربوي يختلف فيه عن غيره، فإلغاء الرسول لربا العباس إلغاء لكل الربوات الجاهلية، حتى تحريم الإسلام لها .
وكان العباس قد فقد بصره في آخر عمره، دون أن يؤثر ذلك في مسيرة إسلامه، إلى أن لقى الله سبحانه وتعالى.
وقد روى العباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثين حديثاً منها ما رواه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا"(29)، وقيل للعباس: أنت أكبر أم رسول الله؟ قال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله .
وفـــاتــــــه:
توفي العباس رضي الله عنه يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة عن ثمانية وثمانين عاماً ، واحتشد الناس لوفاته حيث تجمعوا من العوالي والقرى، وازدحموا عليه –خاصة بني هاشم- وأرسل عثمان بن عفان إليهم إن رأيتم أن أحضر غُسله فعلت، فأذنوا لي فحضر(30)،وغسَّله علي بن أبي طالب في حضور بعض أبناء العباس، ثم صلى عليه عثمان، ودفن بالبقيع في جمع مهيب –رضي الله عنه- .
دكتور/ السيد محمد الديب
(1) انظر تاريخ الصحابة للدكتور/ حمزة النشرتي، وآخرين ، ج4 ص414 .
(2) الطبقات الكبرى ، لابن سعد، ج4، ص3 .
(3) الإصابة، ج4، ص28، طبع دار الغد.
(4) الاستيعاب "ملحق بالإصابة" ، ج3 ، ص691 .
(5) السيرة النبوية لابن هشام ، ج1،ص109.
(6) الاستيعاب "ملحق الإصابة" ، ج3 ، ص707 .
(7) العقبة: موضع بين منى ومكة، وبينها وبين مكة نحو ميلين، وفيها ترمى جمرة العقبة "معجم البلدان، لياقوت" ج4، ص114 .
(8) رواى الخبر اين اسحاق .
(9) السيرة النبوية لابن هشام مجلد ، 1 ، ج2 ، ص279 .
(10) الطبقات ، لابن سعد، ج4، ص9.
(11) السابق الجزء والصفحة .
(12) السابق ج4، ص10 .
(13) أسد الغابة، ج3، ص164.
(14) أسد الغابة ، ج3 ، ص 165 .
(15) زوج العباس بن عبدالمطلب .
(16) الطبقات الكبرى ، ج4،ـ ص9.
(17) الجُحفة قرية كبيرة على طريق المدينة من مكة، وهي ميقات أهل مصر والشام، إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا بالمدينة فيمقاتهم ذو الحُليفة "معجم البلدان لياقوت، ج2 ، ص111" .
(18) الطبقات الكبرى، ج4، ص21 .
(19) الطبقات الكبري ، لابن سعد، ج4،ص 26 .
(20) الترمذي وحسنه عن عبدالله بن عباس.
(21) حياة الصحابة للكاندهلوى ، ج3، ص253 .
(22) أخرجه ابن عساكر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حياة الصحابة للكاندهلوي، ج2، ص285.
(23) رواه أحمد "أسد الغابة ، ج3، ص198".
(24) الاستيعاب ، ج3، ص699، "هامش الإصابة" .
(25) السابق ، ج3،ص701 .
(26) انظر السابق ج3، ص703 .
(27) ديوان حسان بن ثابت، ج1، ص491، طبعة دار صادر .
(28) مسلم 1218 .
(29) رواه مسلم .
(30) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ، ج4 ، ص37 .