البصر هو الحاسة التي يرى الإنسان بها الأشياء، ويتحدد بالرؤية التعرف على ظواهر الأمور، مع أخذ العبرة من سائر المشاهدات، التي ينبغي عدم الاكتفاء بالمرئيات الظاهرة، وإنما يجب التعمق في مكوناتها، وحقائق النواتج المترتبة عليها؛ لأخذ العبرة لصالح الفرد والجماعة، قال تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)([1])، وتطلق البصيرة على القوة المدركة في القلب، للتأمل والنظر لعواقب الأمور.
دلالات التبصر: هى التأني والتأمل، والنظر بالبصيرة القلبية للأمور القولية والفعلية، قبل الإقدام على التصرف فيها، والتعامل معها، فالرؤية بذلك ليست حسية بصرية، ولكنها قلبية تأملية.
وينصرف التبصر إلى تكثيف الأضواء النورانية على الأمور المستقبلية، وإمعان النظر التأملي لها، حتى تتجلى دلالاتها الحقيقية فيكون الحكم على الأشياء بلا خداع، ولاشك في أن الأنوار الكاشفة جزء من التجليات الإيمانية للمسلم، قال تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ)([2])، فالحيثيات المعينة على التبصر من إنعامات الله تعالى على عباده، ولذا ينبغي حسن التعامل معها بالثناء والشكر لله تعالى، واستثمارها في النظر القلبي إلى الأحوال، بما فيها من أقوال وأفعال، ويكون الأمر كأنه تجردٌ وبحثٌ عن الخير في الشأن القادم، أو استخارة بالقلب أو بالصلاة والقلب معا، وبعدها يكون الإقبال وقصد السبيل، إذ يلزم لتمام التبصر إعمال التفكير بصدق واهتمام، قبل الشروع في أي قول أو عمل، بل قبل التحرك نحو الهدف.
وتتعدد مجالات هذا الخلق القرآني الذي حضّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن السُّبل التي يتجلى فيها المجال الخُلقي الذي قيل في تحديده: "هو أن يكون الإنسان صاحب فكر وتدبر، وأهل رزانة وتمهل، وأن لا تغرُّه المظاهر، بل يحاول أن يستبطن حقائق الأمور، ويستدل بالعلامات والإشارات على النتائج والغايات، فيكون له من ذلك مرشد يهديه، وقائد يقود قلبه وعقله إلى سواء السبيل".([3])
والبصير: من أسماء الله تعالى، قال جلت قدرته: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)([4]).
والتبصر: منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والأنبياء، إذ أن دعواتهم مع المبعوثين إليهم كانت محكومة بالتأني والتأمل والتحري لنواتج الأقوال والأفعال، قال تعالى (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)([5])
دعوة الإسلام إلى التبصر:
نزل القرآن الكريم من الله تعالى؛ ليكون إحدى معجزات الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ إلى سائر البشر، واشتملت آياته على الدعوة إلى النظر والتأمل ومحاولة النفاذ إلى حقائق الأمور، وحتمية نظر الإنسان إلى نفسه، وقياس الأبعاد لأقواله وأفعاله، قال تعالى: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ).([6])
وحذرت آيات الوحي الكريم من عدم إعمال الإنسان لأعضاء جسمه وسائر حواسه للوظائف المسخرة لها، وإلا فسوف يبتعد عن محيط الإنسانية الرحيب إلى دوائر الأنعام التي لا تسمع ولا تنطق، قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)([7])، وبالبصائر يتلاقى الأخلاء، ويتقاربون، ويتعارفون بما تعود آثاره عليهم لصالح الدين والدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". ([8])
وتعددت في القرآن الكريم الدلالات الراشدة لبعض شأنه ودوره في الإنارة للراغبين في التعرف على حقائق الإيمان والإخلاص، وصدق النية والعمل الجاد، قال تعالى بحق كتابه الكريم: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ)([9])، وتأكدت هذه الدلالة بشأن القرآن الكريم في آيات أخرى، منها قول الله تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ)([10])، أي أن القرآن الكريم بمنزلة الأضواء الكاشفة للناس طرائقهم في الحياة، وصولا إلى الآخرة، وأن آياته براهين يُستدل بها على معرفة حقائق الحجج والبينات، التي قد تخفى مع النظر العاجل.
نواتج التبصر
لاشك في أن للكلمة دورا رئيسا في بيان مآلات الأحوال، ولو كان الأمر قاصرا على حدود الإنسان لاحتُملتْ النتيجة ولو بقدر من الأذى، لكن النتائج يمكن أن تكون مثيرة للقلق، أو لزرع فتنة، أو لإنماء خلاف، وأقصد بذلك بعض من يتصدون للإفتاء فلا يراعون الزمان والمكان، ولا ما يمكن أن تؤول إليه الفتوى من إحداث أضرار ومفاسد، إذ يجب الأخذ في الاعتبار بقاعدة ما يسمى "سد الزرائع" والتبصر لنواتج الفتوى، وما يمكن أن تؤول إليه، حتى لو كان بيانها صحيحاً.
وقد وردت في القرآن الكريم شواهد كثيرة للتدليل على أهمية النظر إلى العواقب عند القول أو الفعل، ومن ذلك قول الله تعالى (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)([11]) ذلك أن سب آلهة المشركين أمر جائز، ولكن هذا السب يمكن أن يؤدي إلى نتيجة منكرة، وهي توجيه السب من المشركين لله تعالى، إذ أن سب آلهة هؤلاء المعنيين سيفضي إلى آثار سيئة.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه، قال يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه".([12])
وفي مقام السنة النبوية جاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيان العملي إلى أهمية التبصر في الأفعال والأقوال، وحتمية النظر إلى نواتج السلوك، وما يمكن أن يترتب عليه من أضرار ومفاسد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه وهريقوا على بوله سْجلا من ماء أو ذَنوبا من ماء([13])، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"([14])، فقد أقدم الرجل على تنجيس المسجد بالبول فيه، وهبّ الصحابة لمنعه عن الاستمرار في الأذى، وقد طالبهم الرسول بالتروي والتبصر وعدم محاولة منعه لما يترتب على ذلك من زيادة النجاسة في المسجد، ولربما أصيب الرجل باحتباس بوله، وإضراره نفسياً بالإحراج بين الناس في المسجد، ومثل هذا المقتضى كثير مثل الترخيص في الكذب في بعض الحالات، إذ تقتضي الضرورة إجازة بعض ما ورد النهي بشأنه إيثارا لبعض النواتج التي فيها الصلاح والإصلاح والخير الكثير، فعن أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا"([15])
وقالت أم كلثوم راوية الحديث: "لم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها"([16])، ولهذا الشأن شواهد كثيرة لعل منها ما كان من أمر موسى عليه السلام مع الخضر، وما بها من تصرفات لم يتضح المراد منها عند بدء الفعل، ثم كان الكشف والبيان بعد إمعان النظر والتأمل.
وفيما يتصل بمن يتصدر للإفتاء عليه أن يحسن تقدير الأمر، وعدم التوسع في الخلاف، وحظر إيراد الأقوال المتضاربة، وضرورة مراعاة أحوال الزمان والمكان، والقول بأخف الأضرار، ومراعاة جلب المصالح، ودرء المفاسد، والتبصر القويم لنواتج الأقوال والأفعال.
د/ السيد محمد الديب
([1]) الحشر 2.
([2]) الزمر 22.
([3]) موسوعة أخلاق القرآن جـ6، ص12.
([4]) غافر 44.
([5]) يوسف 108.
([6]) القيامة 14.
([7]) الأعراف 179، وذرأنا: خلقنا وأوجدنا لجهنم.
([8]) البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد.
([9]) الأنعام 104.
([10]) الجاثية 20.
([11]) الأنعام 108.
([12]) رواه البخاري ومسلم، واللفظ البخاري.
([13]) السحل: الدلو، والذنوب: الدلو الكبير.
([14]) أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد.
([15]) البخاري ومسلم وابو داود.
([16]) عن الموافقات في أصول الفقه للشاطبي، وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.