توطئة: 

يهدف المشروع الإسلامي للحياة إلى التماسك الاجتماعي ونبذ الفرقة وسائر ألوان التطرف، وصولاً إلى وحدة الأمة من خلال المنهج الوسطي الذي لا خلاف على صلاحيته في الواقع المعاش بين سائر الأطياف والتوجهات، قال الله تعالى: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]([1])، ذلك المنهج الخالي من التطرف والتشدد، وكل أنواع الخروجات على الاعتدال بلا إفراط وتفريط قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]([2]).

وتتعدد المصطلحات التي يتقارب المعنى بينها بما يشمل كل مظاهر التطرف مثل التشدد والتعسف والتنطع والتفريط والتمييع والتساهل، وكلها آفات وعلل ينهض بها المتشددون في سائر الأزمان والمجتمعات، لكن مخاطر هذه التيارات أنها بذور مخصبة لإرواء العنف، ومن ثم الإرهاب، الذي تنعكس نواتجه على المجتمع، فضلاً عما يلحق بالإسلام من إساءات بالغة في سائر المجتمعات، التي يدين بعضها أو معظمها بغير الإسلام، مما يحتم اليقظة التامة، والأخذ بأيدي الفرقاء من المعتدلين والمتشددين إلى التوافق ونبذ العنف. 

ولقد اكتوت المجتمعات الإسلامية بنيران الجرائم الإرهابية، التي لم تقتصر على وطن واحد ودين واحد، فما أخطر أن يتحول الخلاف في الرأي إلى تطرف وتشدد، يتحمل كثير من الأبرياء نواتجه وآثاره. 

ويتحقق التشدد والتطرف بالمبالغة والغلو في الحكم وإبداء الرأي وفرضه بلا نقاش، والبعد عن التيسير وإساءة الظن بالآخرين، مع أن أكثر المتشددين غير مكتملي المعرفة والقدرة على الاجتهاد والاستنباط، وهنا تكمن الإشكالية المفزغة مع هؤلاء الذين يسيئون الظن بالكثيرين، ويحكمون على ظواهرهم دون التعمق في بواطنهم، والتعرف على كامل محتوياتهم. 

ويكون التشدد من فرد مستقل عن غيره، يقرأ لنفسه، ويتعصب لرأيه، وربما يكون أمر هذا لا يمثل خطورة على الآخرين، لكن المتشددين عندما يكونون أفراداً كثيرين، أو بيئة بكاملها فإن المخاطر تزداد وتتفاقم؛ لصعوبة الحوار والتفاهم، وإمكانية التحول إلى فرض الآراء بلا نقاش وعند ذلك يمكن أن يتحول الفكر إلى عنف تزداد مخاطره وتصعب مواجهته، ويصير الأمر كأنه ثأر لا يدري أحد منتهاه. 

أسباب التشدد: 

تعاني المجتمعات العربية والإسلامية من مخاطر التطرف والتشدد بما يعيق المنهج الإسلامي المبني على السماحة واليسر من أن يبسط وجوده على كثير من الأنحاء، بما يوجب المواجهة بالآليات المشروعة دون توليد للعنف، خاصة أن هذا الانحراف لا يقتصر على المعتقدات الدينية، وإنما يمتد ويتوغل بين المذاهب السياسية والفكرية والثقافية، وتعدد الانقسامات المجتمعية من ناحية الاقتصاد والتكتلات والصراع بين الأقوياء والضعفاء وبين الأغنياء والفقراء، وكذلك بين اليمين واليسار والشمال والجنوب دون تعتيم معرفي لم يعد له وجود في كثير من الدول، التي صارت مع الآخرين بمثابة قرية صغيرة من خلال عالم الأقمار الصناعية والسماوات المفتوحة وشبكات الإنترنت، وكل وسائل الاتصالات الحديثة، ويعنينا ابتداء ما يجري حدوثه في المجتمع العربي، الذي يدين معظمه بالإسلام، بما يستلزم الوقوف على جذور التشدد وأسبابه. 

1- لا ينبغي إساءة الظن بكل المتشددين، فبعضهم ينساق إلى التطرف بميوله واتجاهاته دون خضوع لتيار بعينه، إذ يعتبر التشدد نوعاً من التمسك الصميم بجوهر الدين، وربما يعلم أن التوسط منهج رشيد، ولكنه يرى فيه ما لا يرتضيه فينساق إلى التشدد بإرادته وقوة عزيمته في مواجهة ما يراه تفريطاً في كثير من الثوابت فيكون الرد والحوار بمزيد من التشدد وكلا الاتجاهين –التشدد والتفريط- مذمومان، والمعول عليه تأثير التشدد على سلوك الشخص وعبادته، وتعاملاته مع الآخرين، فإذا اقتصر الاتجاه على نفسه فإن الأمر يمكن احتماله، أما إذا حاول فرض آرائه بأية صورة، فعند ذلك ينبغي التحرك الإيجابي والحوار البناء، خاصة إذا كان السلوك معبراً عن تيار أو اتجاه، وعلى العموم فالتشدد غير مقبول في كافة الأحوال، وقد روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ]([3]) . 

وبذات معنى التشدد يأتي معنى الغلو والتنطع والتطرف، خاصة من أهل الكتاب الذين خاطبهم القرآن الكريم بقوله: [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ]([4]).

واشتمل تحذير الرسول من الغلو الأمة الإسلامية اعتبارا بما كان من الأمم السابقة، وقد روى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"([5]) واشتمل نهي الرسول التنطع، وهو رديف التشدد، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون قالها ثلاثاً"([6]).

2- عدم كفاية التثقيف الديني الصحيح الذي يعبر عن وسطية الإسلام وسماحته، خاصة بين الناشئة والشباب في البيت والمدرسة والجامعة، فضلا عن وسائل الإعلام التي تضخ –في كثير من الأحوال- أفكاراً شاردة، أو تطرح آراء ضالة تتمخض عنها تيارات متطرفة، ينساق إليها الشاب أو الفتاة بعاطفة دينية طاغية، وثقافة لا تتيح للمتلقي تمييز الصحيح من الزائف، مع وجوب السماحة بقدر محدد من الاختلاف يمكن قبوله قال تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ]([7]) ومع وجوب أن تكون المخاطبات في حدود المتاح من الرؤية والفكر عند الطرف المخاطب، واحتكاماً إلى التشريع الإلهي الذي لا يخلو خطاب دعوى منه، والحاصل في قول الله تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]([8]).

3- تحصَّل كثير من الشباب على أوقات فراغ، وجد نفسه فيها بلا عمل، وليس لديه ما يشغله: "فبدأ يتجه بحاسته الإيمانية إلى القراءة والاطلاع، ونظراً لقلة محصوله الثقافي لم يكن يحسن في أغلب الأحوال اختيار ما يتناسب مع معارفه وقدراته، وكانت يده تقع غالباً على كتب ومؤلفات لا تصلح له، إما لأنها كتب لمرحلة غير الحقبة التي يعيشها، أو أنها لا تتناسب مع سنه فلا يحسن فهم ما فيها، ولسبب موقفه الرافض لكثير مما حوله أخذت قناعته تزداد بالآراء المتشدد والمتطرفة"([9]).

ولا يقتصر ذلك على طوائف الشباب وإنما يصل للكثيرين من رجال المسلمين ونسائهم تجاوزوا مرحلة أنصاف أعمارهم، حيث اشتملهم التشدد سواء أكانوا فرادى أم جماعات. 

4- وجد كثير من الشباب أنفسهم أشباه الغرباء في مجتمعاتهم فلا الإعلام يحسن التعبير عنهم، ولا الكفاءات العلمية والفكرية تمثل القدوة لهم، فضلاً عن انسحاب الكثيرين من الساحة الثقافية والدينية، وانصراف غالبية الشباب إلى المواقع الإلكترونية، المعبأ أكثرها بالعبث والشرر، واللهو والمجون، واتجه بعضهم إلى الدين طلباً للحماية والاستقامة، ووقعت أيديهم على ما ساقهم إلى التشدد والتطرف، وعدم قبول الرأي الآخر، وصار من الصعب زحزحتهم عما استقر في أعماقهم من أفكار وآراء دينية أو إبداعية أو سياسية، وحدث ما يشبه الحواجز التي تحول بين من يتبقى من الكفاءات، ومن بقى مؤهلا من الشباب للفهم والقبول والاستيعاب. 

5- لم يؤد الخطاب الديني أو الدَّعْوي –من خلال مستوى بعض الدعاة وغيرهم- إلى إقناع الأجيال الجديدة الراغبة في التثقيف الديني العميق، بما يحتويه من آراء مذهبية متعددة وأحكام فقهية وعقدية، ربما تكون غير لصيقة بالواقع، ففي ظلال هذا الوضع الذي استمر لفترات طويلة أسفر عن أمية دينية غير مستحبة، في وقت صارت المعارف فيه متاحة بشكل كبير من خلال تعدد المنافذ الدينية والثقافية والإعلامية . 

6- تخضع بعض المستجدات في أرض الواقع إلى اجتهاد العلماء، ويقع الاختلاف، وتتعدد الآراء، ويشتد بعض الناس، تعصباً لمذهب معين، أو شخص محدد، ويحدث ذلك إيذاناً بدخول الساحة والمشاركة في الاجتهاد من لا يصلح للبيان والقول الفاصل، ويزداد الاختلاف بين التشدد والتفريط -مع أن كليهما مذموم ومنهي عنه- وتكون المناداة بصوت الوسطية الذي يتحتم الاقتناع به والدعوة إليه والالتفاف حوله، لكن مسارات الحديث والتعدد المذهبي يسفران عن حركات تشددية تحتاج إلى جهد جهيد، للتحاور معها ومناقشتها وتوجيه الفهم لديها، وصولاً إلى التيسير والاعتدال. 

ومن المعلوم يقيناً أن درجات التشدد متفاوتة، وأن أسبابه كثيرة، تختلف باختلاف التوجه والمعتقد والزمان والمكان، وسائر التوجهات الدينية والثقافية والسياسية. 

مظاهر التشدد: 

إن أخطر ما يتمخض عنه التشدد والغلو ما يكون من أمر الفرقة والانقسام والتشتت، الذي يحدث بين جنبات المجتمع الإسلامي، بما يعد مظهرا منفراً وتعبيراً غير صحيح عن المنهج الإسلامي للحياة، الذي تقضي نصوصه الدالة بالوحدة والترابط والتماسك، وتنبذ التشدد والتطرف والانقسام قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ]([10]) وقال جلت قدرته: [وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ]([11]) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من خرج على الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية"([12])، وما أخطر أن يكون التشدد في أمر العبادات، فإن السلوك الذي لا يعبر عن الوسطية ويتجه إلى التشدد والتطرف، يمكن أن يصرف الكثيرين عن المنهج الإسلامي، وهذا ما يحدث أحياناً بسبب الإطالة في الصلاة مثلا، وممارسة بعض الطاعات بأداء متشدد، وقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم كل ذلك في عصره وأظهر وجه الحق والصواب والتيسير فيه قال صلى الله عليه وسلم: "إذا صل أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"([13]).

وفي ذات السياق روى أبو مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمَّ بالناس فليجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة"([14]).

وكان عليه الصلاة والسلام حريصاً على تفعيل التيسير في الصلاة وفي غيرها من العبادات فكان إذا أم الناس، واستمع إلى بكاء صغير لأم تصلى خلفه فكان يتجوز في صلاته مخففاً وميسراً على المصلين، ومراعاة لشدة تعلق الأم بوليدها، رضي الله تعالى عنه وعن سائر أصحابه وتابعيه، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"([15]).

وهكذا واجه الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الطوائف الثلاثة من خلال الاستدلال لمنهجه في العبادة وسائر شؤون الحياة، ذلك المنهج الذي يعلوه اليسر والرفق واللين بلا إسراف وتفريط، ثم أعطى الرسول البيان بضرب المثل فيما يخص العبادات أيضاً قال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة لله تعالى، فإن المنبت([16]) لا أرض قطع ولا ظهراً أبقى"([17]).

ومن أخطر مظاهر التشدد في الدين ما يتوجه به المسلم إلى غيره واصماً إياه بالكفر بما يعني الخروج من الملة الإسلامية، وهذا أمر في غاية الخطورة، خاصة عندما يكون الخطاب أو التوصيف بحق شخص يقر بالشهادتين، ويمارس شعائره الدينية بلا تقصير في ضوء المشاهدات الظاهرة، ويكفي ردا على ذلك ظاهر الفهم لقول الله تعالى: [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا]([18]).

وكان بعض السلف يقول: "إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول لعل له عذراً آخر لا أعرفه".

وقد اكتوى المسلمون بنيران التعصب للفكر والفهم في عهد الصحابة والتابعين، بدءاً من الخوارج الذين كانوا من أشد الناس تمسكاً بالشعائر الإسلامية، ولكنهم بالغوا في تشددهم تعبيراً عن فساد أفكارهم، ولعل صنائعهم الثابتة في التاريخ لا تبعد عما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: بشأن المتشددين عموماً، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال يا رسول الله: "اعدل" فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل". 

فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه، فأضرب عنقه، فقال: "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..."([19])، فهؤلاء نموذج للتيار المتشدد منذ عصر البعثة النبوية وقد أطلت هذه الفتنة برأسها في العصر الحديث من خلال "جماعة التكفير والهجرة" التي أساءت إلى الإسلام والمسلمين بأفكارها وآرائها التي أفاض الكثيرون في أحاديثهم عنها([20]).

وتتسع دائرة الخلاف ويطول النزاع بسبب التعصب في توجيه المعنى للكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومثال ذلك ما قيل عن الآيات الثلاث من سورة المائدة التي تقول نهايتها [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]([21]) وقوله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]([22]) وقوله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]([23]) . 

وقد أفاض المفسرون وعلماء العقيدة والرأي في بيان ما يراد من ذلك بصريح العبارة أو بتأويلها، بمعنى عدم الاكتفاء بظاهر النص، ومما قيل في بيان معنى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ] وهي الفقرة القرآنية الملازمة للنهايات الثلاث، أي: "عن تعمد وإعراض واستخفاف بأوامر الله ونواهيه فأولئك هم الكافرون بها، والظالمون لها، الفاسقون الخارجون عليها"([24]).

ومن أمثال التشدد في الأحكام من خلال الفهم لبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما قيل بشأن درجات تغيير المنكر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأي منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"([25]) فالأمر  على إجماله خاضع للاستطاعة، وليس كل أحد مكلفاً بذلك على الإطلاق، وفي ضوء المعايير الثابتة، وفي نطاق الشخص الواحد يكون التصرف بحق من له عليه ولاية فالقضية على عمومها قابلة للنقاش مع ضرورة إعمال العقل فيها إلى جانب النقل، ولو استجاب كل متشدد لفهمه وتفكيره، ونهض بتغيير المنكر بيده لاتسع الأمر، وانفلت الكثيرون لعدم قبول الضوابط التي تحكم تنفيذ العقوبة المستحقة للتطبيق، والشواهد في هذا الشأن كثيرة، وهي لا تخلو على إجمالها من ممارسات ومخاطر ومخاز وإساءات لمنهج الإسلام في التعامل مع المخالفين، كما أنه لابد للإنسان المسلم قولا وفعلاً أن يعمل عقله في كل ما يصل إليه عن طريق الرؤية أو السماع بدون إيقاف للعقل، أو تشدد في الفهم، مع أهمية تعزيز ثقافة الاختلاف، واحترام إرادة الآخرين لتصحيح المفاهيم ومواجهة الأفكار المغلوطة، وقد ختمت آيات كثيرة من القرآن الكريم بقوله تعالى: [أَفَلَا تَعْقِلُونَ]([26])؛ تأكيداً لأهمية إعمال العقل، ورفض التشدد، وقبول التيسير، والتخفيف في العبادات والمعاملات. 

ويحدث التشدد ويدور الخلاف حول أمور كثيرة ولا ينقطع الحديث عنها، ومن أمثلة ذلك نقاب المرأة وعملها في المجتمع، وتقصيرِ الثياب وحرمة التصوير، وأشياء أخرى كثيرة يطول الحديث عنها، إذ أن أكثر المتشددين يقْصِرون الأمر على الوجوب، دون أن يمتد إلى الندب والإباحة، فضلاً عن وجوب التعرف على قضايا فقه الواقع وتغير الأحكام والفتاوى بتغير الزمان والمكان، وهذا من يسر الإسلام وسماحته فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُلْجة"([27]).

ومما كتب عن التشدد وارتباطه بالإرهاب الفكري ما يلي: "ليس لدينا أي شك في أن الإرهاب الفكري إنما هو ثمرة ونتيجة للتشدد والغلو في الدين، وهذا التشدد راجع إلى أن هؤلاء يأخذون من الفقه ومن الشرع حرفيته، ويقفون عند اجتهادات الأولين، والجمود على متون النصوص من دون الرجوع إلى النصوص الكلية للشرع، وتحري مقاصده وغاياته، وتحقيق مصالحة العامة، وتلمس روحه ومضمونه، والبحث عن حُكْمه ومغزاه"([28])، إذ لا تتسع صدور المتشددين لمن يخالفهم في الرأي، ويغيب عنهم الكثير من المعالم لمنهج السلف الصالح، الذي يقوم على الوسطية والتيسير، وحرية الرأي والتعبير، وبقدر ما يسهم التشدد في الآراء والمذاهب عند الأفراد والتيارات في ازدياد حدة الشقاق والخلاف فإن التفريط في القيم والمبادئ يؤدي إلى ازدياد حدة الفكر المتشدد، ولذلك فإن الإسلام يقر الوسطية ويدعو إليها بلا 
إفراط أو تفريط . 

مواجهة التشدد: 

ليست المواجهة للتشدد والمتشددين أمراً هيناً يستطيع فرد أو هيئة أن تنهض به دون سواها إذ يتحتم أن تعبأ كل الجهود والإمكانات بتفعيل المواجهة بالآليات المشروعة من خلال المؤسسات الدينية، وفي مواقعها، ومن خلال علمائها بدور العبادة وسائر معاهد العلم، وكل التجمعات المهيأة لأن تجعل من رسالتها تصحيح الفكر وإزالة الغموض عن كثير من القضايا الدينية، التي يختلف الناس فيها بين متشدد ومفرط متساهل؛ سعياً إلى نشر منهج الوسطية من خلال المتخصصين، الذين يحسنون التعامل مع ذوي الآراء المتطرفة، سواء أكانوا أفراداً أم تيارات أم بيئات بكاملها، وهذه بعض آليات المواجهة: 

1- الحوار الإيجابي: 

عندما يشتد الخلاف بين جماعة المسلمين، ويتمسك كل فريق بما لديه من حجج وأسانيد، ويرى أنه على الحق والصواب، وأن غيره على الباطل والضلال فلابد من الاحتكام إلى الحوار واستماع كل طرف إلى حجة الآخر، ومن الواضح أن المنهج السليم والاتجاه الصائب يدين به علماء المنهج الوسطي، الذين لا يقرون تفريطاً أو إفراطاً أي أنهم على خلاف ما يراه المتشددون فإذا ما تباعدت الشقة، وزاد الخلاف بين المتحاورين فإن الدعاة الملتزمين بالمنهج الوسطي عليهم أن يتذرعوا بالصبر، وأن يحسنوا التصرف والتفهم لمرئيات الآخرين، ولا يكون ذلك إلا بالسعي للوصول إلى كلمة سواء يلتئم بها شمل الفرقاء، ففي ذلك صلاح للدين وتوحيد للكلمة وجمع للشمل، فلا يعتقد المعتدلون أنهم ماداموا على الحق فالواجب على غيرهم أن ينقادوا لهم، فهذه النظرة مع صحتها ووجاهتها لا ينبغي أن تكون حاجزاً للحوار مع أصحاب الرأي الآخر ما دام الحوار إيجابياً بضوابطه، حيث يحترم كل صاحب رأي لوجهة النظر الأخرى . 

إن الشريعة الإسلامية معبأة بالتفاهمات، والعديد من الحوارات، سعياً للوصول إلى الوفاق وجمع الكلمة، ونبذ الفرقة، وتجلى ذلك في مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة ما كان بشأن التحولات الكبرى في تاريخ الإسلام، والعهود والمواثيق كثيرة في هذا الشأن، ولعل ما كان في أمر صلح الحديبية من نزاع واختلاف بين الرسول وجماعة من أصحاب من ناحية، وجماعة المشركين من أهل مكة من ناحية ثانية، وتم الوصول إلى حلول ومعالجات مرتبطة بهموم المرحلة الزمانية، التي يحياها طرفا النزاع، وكان التنازل عن قليل من بعض الحق إنارة واحتمالاً وتسامحاً من الرسول وأصحابه للطرف الآخر، وتواصلت المواقف الحوارية حول شئون الحياة الإسلامية في عصر البعثة النبوية، وسار الصحابة رضوان الله عليهم على ذات المنهج في التعامل مع كثير من المشكلات والنزاعات، خاصة ما اتصل منها بالعقيدة، وسائر مشتملات العبادة ومعالم الحياة الإسلامية، ومن تلك الحوارات الرائدة ما كان من على بن أبي طالب -كرم الله وجهه-  وعبدالله بن العباس رضي الله عنه في الحوار مع الخوارج، هذا الذي يعد صورة مضيئة لما ينبغي أن يكون عليه الحوار في الإسلام. 

وعرض القرآن الكريم كثيراً من الآيات التي تعبر عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للتفاهم مع أهل الكتاب، وذلك ثابت وشاهد على أهمية التلاقي والتوافق في الرأي، وعدم التشدد والنزاع مع الالتزام بالاشتراطات الثابتة، التي تراعى فيها حقوق كل طرف لدى الآخر قال تعالى: [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]([29])

وعرض القرآن الكريم لحوارات الأنبياء مع أقوامهم؛ تأكيداً على أهمية الحوار وكونه من أنجح الوسائل؛ للتقريب بين الفرقاء، سعياً إلى التوافق ونبذ الخلاف، وذلك مالا بد من تفعيله بضوابط ثابتة في التفاهم الموضوعي مع المتشددين؛ لتصحيح الآراء والرد على الأفكار المغلوطة بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى في حق التفاهم بالكلمة مع أهل الكتاب: [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]([30]) وذلك ما يكون السير عليه في سبيل الوصول إلى إظهار الحق، والرد على سائر المخالفات. 

والثابت أن الإسلام يدعو إلى التحاور مع الخصوم والفرقاء، للوصول إلى توافقات تُحفظ بها الحقوق، وتصان الدماء، فأولى بالمعتدلين من العلماء أن يَجِدُّوا في محاوراتهم مع المتشددين من أبناء الإسلام، حتى يصلوا بهم إلى الاقتناع والاعتدال، كما أن الثابت يقيناً أن الحقيقة واحدة، ولا يمكن أن تتعدد، بينما يتعدد غيرها بما يؤدي إلى الفرقة والضعف والتناحر، الذي يتولد عنه الصراع والاقتتال قال تعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ]([31])

ولا يتصور المعتدلون في حواراتهم أنهم –وحدهم- على الحق وأن غيرهم من المتشددين على الباطل، وبذلك يجب عليهم أن يصمتوا وأن يلتزموا بما يملي عليهم دون نقاش، فمثل هذا الفهم في التناول لا يحقق النتائج المرجوة، فعندما يدار الحوار لا ينبغي أن يكون محاكمة من طرف لآخر، وأن الهدف الأسمى هو الإنارة والوصول إلى الحقيقة، وليس إعلاناً عن انتصار فريق على آخر، وشواهد السنة دالة على ذلك، وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ادع على المشركين فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة"([32]) فالتقدير للآخر، خاصة بين أفراد المسلمين ينبغي أن يكون مبنياً على التقدير والتسامح، وعدم الإساءة، والاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، حتى لو كانت بعيدة عن الاعتدال ومعبرة عن التشدد فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"([33]).

ويشهد تاريخ السلف الصالح بنماذج عديدة للتحاور بين الفرقاء، ومن أشهر ذلك ما كان من حوار بين مالك بن أنس إمام دار الهجرة والليث بن سعد إمام مصر وعالمها الكبير، فقواعد التفاهم والتحاور ذات معيارية واحدة، سواء أكان الحوار بين فردين أو بين أصحاب تيار أو اتجاه وآخرين، إذ لابد أن يخضع الحوار إلى ضوابط يحتكم إليها ويلتزم بها، المتحاوران، مع حتمية تقبل الطرف الآخر والتسامح معه وعدم تجريحه وتشويه صورته إلى غير ذلك من الأسس والقواعد، التي يجب الالتزام بها مع عدم الخروج على الموضوعية، وعدم الإساءة بالكتابة أو التحدث، فلا سبيل للتفاهم مع التشدد والمتشددين إلا بالحوار البناء والتسامح في حدود ما يعرضه المتشددون من آراء وأفكار، فالتشدد والتطرف حاصل في مسيرة الإسلام كاتجاه يستهوي بعض الشباب والكهول، وهو جزء من مأزق حضاري معاصر لا ننكر وجوده في كثير من الدول الإسلامية، ولذا لابد من الحوار الإيجابي مع المتشددين، كما يتحتم تفعيل الدعوة الإسلامية، بصورة إيجابية غيورة مع المتسيبين والمتساهلين، الذين لا يبالون كثيراً بالقيم والمبادئ ويؤذون بسلوكياتهم وأحاديثهم الآخرين ممن يؤمنون بالوسطية، وممن ينحرفون 
إلى التشدد. 

2- الحرية المنضبطة: 

يبدو أن الدعوة للحوار –من ظاهرها- تتناقض مع "آليات المواجهة للفكر المتشدد" ولكن المقصود هو أن يكون الحوار من خلال المواجهة الهادئة بالأفكار والأدلة، وليس بالقوة والعنف والازدراء، وذلك تحت مظلة الحرية المنضبطة، التي لا تطغى على الثوابت مثل صريح القرآن والسنة، الذي لا يحتمل التأويل أو الاجتهاد، وفي ضوء ذلك ينبغي أن يتجه الحوار مع المتشددين إلى الهدوء والأمل في تحقيق الأماني، وعدم التهديد بالعقاب، ففي ظلال الحرية الكاشفة والمنضبطة يكون النقاش واضحاً وصادقاً وبلا خلاف أو تجمل أو نفاق، وبحيث يكون السعي إلى الإصلاح هو الهدف المنشود، وليس إرضاء لأحد أو تفعيلاً لرأي مسبق، ففي ظلال الحرية تنمو الآمال ثم تزهر وتثمر، التزاماً بالمعطيات الإسلامية الثابتة، والضوابط الشرعية الحاكمة للمنهج الإسلامي القويم، وربما لا يقتنع بعض العلماء والدعاة بالحوار مع المتشدد، الذي تطرف فكره، وصار مقتنعاً -على سبيل المثال- بضرورة تغيير المنكر بالقوة، دون مراعاة للضوابط، وأبعاد الاستطاعة، ولكن هذا الاقتناع غير مجدٍ، إذ يشهد التاريخ القديم، والواقع المعاصر أيضاً أن الحوار يجري تفعيلة بين المتحاربين في ساحات القتال، فلماذا لا يجري بين أبناء الديانة الواحدة، حتى لو اختلفوا في الفكر والأسلوب وسبل المعالجة، لأن شدة التعقب والملاحقة لا تولد إلا مزيداً من التشدد والتطرف، ومن ثم العنف والاقتتال، وربما يؤثر التضييق على الدعوة والدعاة، خاصة في مجال العمل الإسلامي فيتحول المعتدل إلى متشدد إذ أن الحرية المنضبطة سياج داعم لمسيرة العمل الإسلامي، الذي ينفر من التضييق والترصد في ظل تعدد الأصوات التي تنادي بالحرية في العقيدة الدينية والمذاهب الثقافية والتوجهات الفكرية. 

فالحرية المنضبطة حق ثابت لكل المتحاورين، وفي ظلاله تتضح الصورة ويظهر المخبوء ويقوم المعوج بلا خوف من نواتج ما يعرض ويثار، ذلك أن الحرية الدينية مقررة في القرآن الكريم والسنة النبوية –ابتداء- قال تعالى: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ]([34]) . 

وقد قدم كثير من العلماء آراء صائبة وحاسمة في مسيرة الفكر الإسلامي، الذي يثبت ويؤكد حق المسلم في العقيدة والتعبير، وسائر التوجهات بما ينشط دوائر الفكر في عقول الكثيرين ممن يؤمنون باتجاهات معينة، ويخشَوْن التعبير عنها، تخوفاً من عدم قبولها وإساءة الظن بها. ومن الرواد في ذلك الشيوخ العظام: رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبدالمتعال الصعيدي وغيرهم، كما قدم الكواكبي كتابه المتميز عن طبائع الاستبداد، هذا الذي يكبل الفكر، ويميت الإبداع ولا ينتج عنه إلا المزيد من التطرف، وفي ذات السياق لابد من شعور المتشدد الذي لم يتطور تشدده إلى عنف لابد من حسن التعامل معه وضرورة الاستماع إليه، والرد عليه، وتقديم الآراء الصائبة له.

إن من أشد الخطر في مسيرة العمل الإسلامي والتوافق المجتمعي الدخول إلى الحوار بنظرة أحادية لا تقبل رؤية أخرى، ويعد من لا يتفق معها مخالفاً لدينه معانداً لمجتمعه، وهذه إشكالية تتجلى –للأسف الشديد- في كثير من الدول الإسلامية، التي تعتنق الرأي الواحد، دون إتاحة الفرصة لنشر نسائم الحرية، لتعطي لصاحب الرأي بكافة اتجاهاته دون تمييز بين 
فرد وآخر. 

3- تجديد الخطاب الدَّعوي: 

يتحرى بعض المتشددين وغيرهم عن جملة من النقاط الخلافية فيعيدون الحديث عنها بكراهية وتعقب بهدف الوجاهة الاجتماعية أو الإعلامية، وإثبات التميز الذاتي، أو الكراهية للإسلام، وتساعدهم بعض القنوات الفضائية أحياناً لأهداف ربما تكون غير واضحة، والرد على هؤلاء مهما اختلفت دوافعهم ينبغي أن يكون من العلماء المتخصصين المشهود لهم باستقامة الفكر، والتوسط في الأحكام، والتعرف على الدوافع عند من يسيئون إلى الدين، ويجنحون إلى التشدد بحجة الدفاع عنه وصيانته، ولكن هذه هي مسئولية أهل العلم، الذين تحصنوا بالقرآن الكريم والسنة النبوية واجتهاد الصحابة فيما لم يرد فيه نص صريح من واقع التعامل مع المتشددين، وفق المستحدثات التي اتسعت بها دوائر الفكر، ولم تعد محصورة في مرئيات المذاهب الفقهية الأربعة، وأقوال السلف الصالح، وتلك هي الضرورة التي يفرضها فقه الواقع وآليات التعامل بخطاب دعوي متجدد وملائم لمقتضى الحال، وتلك هي المسئولية التي حددها رسول الله صلي الله عليه وسلم في قوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"([35])

إذ لا ينبغي أن يتصدى لهذه المهام الدعوية إلا من كان مؤهلا لها من رجالات الأزهر والأوقاف، وهم كثيرون في العديد من التخصصات المختلفة قال تعالى: [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]([36])هؤلاء النفر الذين يعتبرون كأنهم في قتال نفروا إليه، مع الإستعانة بالفهم المتجدد للقرآن الكريم، لإحياء السنة النبوية، وإماتة البدعة الضالة، وإيضاح ما غاب عن المسلمين، خاصة في النواحي الإعتقادية، وطرق المخاطبة الدعوية، فالبلاغة هي: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته"، إذ ينبغي مطابقة الخطاب للتعامل والمخاطبة مع تيار متشدد متعدد الفهم ومعبأ بالآراء المتطرفة. 

ويشمل التجديد في الخطاب الدعاة الذين يلتقي المسلمون بهم من المعتدلين والمتشددين في خطبة الجمعة، وإذا لم يكن الداعية على وعي كامل بمن حوله ومستوى معارفهم ومصادر ثقافتهم فإن الخطاب لا أثر له ولا خير يرتجى منه؛ لذلك يجب الاهتمام بالدعاة من ناحية الإعداد والتحديث والقدرة على الإقناع، وفق متطلبات الأحوال، كما أن اختيار الخطاب الموجه للمسلمين أينما كانوا ينبغي أن يكون واضحاً مقنعاً، ومطابقاً لسائر مستقبليه، فالتجديد يكون في الداعية وفي الموضوع، وفي الأسلوب بحيث يتناسب مع من يملؤون الساحة خروجات على كثير من الثوابت الدينية، وفي ضوء هذه المرئيات يتحتم أن يكون الخطاب الدعوي بكافة أشكاله مطابقاً لأحوال المتشددين والمتربصين، ومستويات أفكارهم واتجاهاتهم، احتكاماً إلى المتغيرات المستحدثة في آليات الخطاب الديني. 

4- التعليم الديني: 

يقتصر التعليم الديني على مؤسسة الأزهر في معاهدها وكلياتها المتخصصة حيث، يتلقى المتعلم قدراً يمكن أن يكون كافياً وعاصماً من التحول إلى الفكر المتشدد، ولكن النزعات الإنسانية والميول التي تنتاب الشخص يمكن أن تتحول به إلى اعتناق الفكر المتشدد، ومن ناحية أخرى فإن الجرعات الدينية في التعليم غير الأزهري لا تمثل أية قيمة يمكن أن يعتمد عليها في إشباع المعارف الدينية، التي يمكن أن يتحصن بها المتعلم من الاتجاه إلى التشدد والتطرف، ولكن الحاصل أن القدر المقرر حسب المناهج التعليمية لا يغني ولا يسمن، ثم يتلاشى تماماً في الكليات الجامعية، ويقتصر الأمر على بعض الأقسام في قليل من الكليات النظرية بما تقدم من قشور ربما تسهم بقلتها في إتاحة الفرصة للراغب في المعرفة أن يتحول شيئاً فشيئاً إلى مصادر لا يحسن فهمها ولا يجيد التعامل معها فيكون التشدد والتطرف، على أن المعارف الدينية خاصة التخصصية هي أساس –باتساعها- في غاية الأهمية لإعداد النخبة المتخصصة للرد على المتشددين ومواجهتهم، وهي في الوقت نفسه داعمة للحماية والتحصين من الفكر المتطرف فالتعليم الديني مطلب هام سواء لإعداد العلماء المتخصصين في الدفاع عن الفكر الوسطي والدعوة إليه أم للوقاية من الوقوع في حبائل التشدد. 

ولا ينبغي أن تكون المخاطبة والرد على معتنقي الفكر المتطرف لكل أحد إذ يجب أن ينهض بهذه المهام المتخصصون الفاهمون للمراد من القرآن والسنة، ويكون الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي سبيل الإعداد القويم لهذه الكوادر بدأ الأزهر في إنشاء مسار لتعليم مستحدث يكون وفق النظام الأزهري القديم، قبل أن يلحق به ما لحق من تغيير وتطوير في منظومته القديمة، بحيث ينهض بالدعوة المؤهل لها والقادر عليها، ذلك أن المؤسسة الأزهرية تهدف إلى تميزها بما تسير عليه من دراسة العقائد والملل والنحل والمذاهب الفقهية وعلوم البلاغة والبيان، وسائر المعارف المؤهلة للدعوة الإسلامية والرد على المتشددين. 

5- توجيه الإعلام: 

ينبغي أن يوجه الإعلام بكافة قنواته لزيادة الجرعات الدينية والثقافية، التي تحمي المسلم من التشدد والتطرف، لكن الحاصل أن بعض القنوات قد تسهم في نشوء حالة من التشدد بسبب ما تعرضه من أطروحات يسوقها بعض المتشددين بقصد أو بدونه؛ استناداً إلى الرغائب في تحقيق المكاسب المادية، وفي سبيلها تزداد الإثارة والجدل والاختلاف، والملاحظ أن أكثر الذين يسؤون إلى الدين يكونون من خلال المنافذ الإعلامية، فبقدر ما تكون الوسائل الإعلامية –خاصة القنوات الفضائية- داعمة للفكر الوسطي فإنها على الجانب الآخر تؤجج المشاعر المعاندة والفكر المنحرف، تحت دعوى الحرية، التي ترتكب باسمها أخطر الإساءات الطاعنة في صميم الدين وكثير من مصادره. 

وقد شاع في الساحة الإعلامية ما قيل طعناً في بعض الصحابة وبعض أمهات المؤمنين، وما قيل تشكيكاً في بعض المصادر الإسلامية التي هي محل ثقة وتقدير عند المسلمين مثل التطاول بالتشكيك في صحيح البخاري وغيره من أمهات كتب الحديث، ولذا يبقى الإعلام بكافة وسائله سلاحاً له أكثر من حد يمكن توجيهه، إما إلى تصحيح الفكر ونشر سماحة الإسلام وإما إلى إثارة الفتن والنزاعات بما يتيح ويقوي المزيد من التشدد والتطرف.

ختام القول: 

- ينبغي أن تكون الدعوة الإسلامية مبرأة من الأهواء معبرة عن التيسير والاعتدال .

- لا تكون المواجهة للفكر المتشدد بأسلوب واحد أو بفكر واحد، وإنما يتحتم أن تعدد الرؤى والوسائل بالآليات المتجددة في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود، وهو الحماية من التشدد والتطرف، والدعوة إلى الوسطية والاعتدال. 

- ينبغي التقريب بين وجهات النظر وجمع الكلمة ونبذ الفرقة والانقسام، وذلك بالحوار الإيجابي، الذي يشمل الجميع بلا تفرقة، وتحت ظلال الحرية المنضبطة سعياً إلى الإصلاح من خلال المصارحة والوضوح. 

- يجب الاهتمام بالتعليم الديني في سائر المؤسسات التعليمية، من بدايته إلى نهايته، بحيث يتحقق إشباع المعارف الدينية لدى الناشئة والشباب، مع بيان المخاطر من اعتناق الفكر المتشدد، وبدون تهديد بالملاحقة والعقاب. 

- يجب في كل الأحوال الاعتماد على كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الوصول إلى تقريب بين وجهات النظر ونشر سماحة الإسلام. 

دكتور/ السيد محمد الديب


([1]) الأنبياء 92 . 
([2]) البقرة 143. 
([3]) رواه أبو يعلي الموصلي في مسنده (3694) وفي فيض القدير (177) وفيه أن الحديث حسن صحيح، والنص القرآني الوارد جزء من سورة الحديد آية 27. 
([4]) المائدة 77 . 
([5]) رواه النسائي في سننه (3057) ورواه ابن ماجه في سننه (3029) ورواه غيرهما. 
([6]) مسلم (2670) وأبو داوود (4608) .
([7]) هود 118. 
([8]) النحل 125 . 
([9]) قضايا ثقافية لكاتب البحث، طبع مجمع البحوث الإسلامية ص129. 
([10]) الأنعام 159 . 
([11]) المؤمنون 52.
([12]) مسلم (1848) كتاب الإمارة ورواه أحمد وهو حديث صحيح .
([13]) البخاري (703) في الأذان، والنسائي (833) في الإمامة، وأبو داود (794) في استفتاح الصلاة. 
([14]) مستخرج أبي عوانه (1555) .
([15]) البخاري (5063) باب الترغيب في النكاح ومسلم (1401) باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه .
([16]) المنبت: الذي انقطعت عنه رفقته بعد أن أجهد دابته. 
([17]) السنن الكبرى للبيهقي (4743) والزهد والرقائق لابن المبارك (1178) . 
([18]) النساء 94. 
([19]) البخاري (3610) ومسلم (1064) . 
([20]) راجع كتاب "المتشددون المحدثون" إشراف أحمد خليفة "جزءان" طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2013م . 
([21]) المائدة 44. 
([22]) المائدة 45 . 
([23]) المائدة 47. 
([24]) التفسير الميسر للدكتور/ محمد سيد طنطاوي بهامش مصحف الأزهر ص94.
([25]) مسلم (49) باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، سنن أبي داوود وسنن النسائي. 
([26]) منها البقرة 44 ، 76، وآل عمران 65.  
([27]) البخاري (39)، والنسائي (5034) ، والدُّلْجة: السير من أول الليل. 
([28]) موقع الحياة على شبكة الإنترنت. 
([29]) آل عمران 64. 
([30]) العنكبوت 46. 
([31]) الأنعام 153. 
([32]) مسلم (2599) .
([33]) البخاري (48)، مسلم (64). 
([34]) البقرة 256. 
([35]) البيهقي (51) حديث صحيح، ومسند البزار (9429). 
([36]) التوبة 122.