أولاً: توطئة

يشكل قيام الدولة وبناؤها أساساً هاماً في استقرار الشعوب، وإدارة شؤونها، وقيام نهضتها، فالدولة كيان قائم، وبناء فاعل، ومنظومة حضارية تسوس مصالح الأمة، وذلك من خلال الحكومة التي تشرف عليها، وتتابع إدارتها للمؤسسات السياسية والثقافية المختلفة، ولا ترقي الحضارات، وتتقدم الشعوب إلا من خلال الدولة التي هي: "مجموع كبير من الأفراد، يقطن بصفة دائمة إقليماً معيناً، ويتمتع بالشخصية المعنوية، وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي"([1]).

ولا يُتصور قيام الأنظمة الحاكمة واستقرارها إلا بالعديد من المقومات المنظمة لحركة الحياة من سياسية واقتصادية وثقافية وقانونية شاملة.

والشعب أو الأفراد أو المواطنون عنصر أساسي لأي دولة، إضافة إلى الإقليم أو المنطقة، التي تضم هؤلاء الأفراد، الذين يمارسون نشاطاتهم من خلال الإدارة العامة أو الحكومة، وعليه فالدولة بكل حدودها في إقليمها، وبالأفراد الذين يحيون تحت رعايتها عبارة عن: "مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد، ويخضعون لنظام سياسي معين، متفق عليه فيما بينهم"([2]).

والدولة من التداول والانتقال من مرحلة لأخرى، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وقد أطلق ميكيافيلي([4]) في القرن السادس عشر مصطلح الدولة على السلطة أو الحكم أو الحاكمين، إذ كان الملوك في أوربا يرددون ما قاله الملك الفرنسي لويس الرابع عشر قبل ذلك: "الدولة أنا وأنا الدولة"، لكن هذا الفكر لم يلبث أن محاه الزمن من خلال التطبيق على أرض الواقع، إذ حدثت متغيرات كثيرة عبر مئات السنين بشأن إدارة الدولة، وتحديد نظمها السياسية وعلائقها بغيرها من الأمم.

أما العوامل الثقافية فذات آثار بارزة في بناء الدول وتقدمها وازدهارها، إذ بمقتضاها فضلاً عن العوامل الأخرى تسير حركة الحياة، وتعتدل منظومتها، وترتقي حضارتها.

فالدولة كيان قائم ومعترف به، ولها حدود ومعالم، وماضٍ وحاضر، وآمال وطموحات تسهم الشعوب بما تملكه من ثقافة وعلم في صناعة الواقع وتقدمه، وحسن العلاقات بين الدول المختلفة، والكيانات الحادثة، التي باجتماعها ومواقفها وتحضرها تزدهر الأمم، ويعلو البناء، وعندما يتجاوز المواطن مخاطر الأمية والجهل، ويسمو بالثقافة والعلم إلى التقدم، فإنه يرتقي بنفسه، وبمجتمعه إلى السلوك الإنساني القويم، بما يجعل من شعبه نموذجاً مختلفا ونمطا فريدا بين الشعوب، إذ ترتبط أبسط معاني الثقافة بتهذيب النفوس وتليين الطباع، وتتراكم المكونات الثقافية في وجدان الأفراد والجماعات عن وعي، أو عن غير وعي، ذلك لأن الثقافة ليست حقائق ثابتة في الأوراق، أو محفوظة في العقل أو الدماغ، ولكنها مجموعة متكاملة من العقائد والقيم الراسخة والقواعد المتبعة، التي ينهض الشعب بتطبيقها والالتزام بها، وعدم الخروج عنها، إذ لا يمكن ولا يتصور تحقيق بناء واستقرار لدولة "ما" على جهل وإملاق، فالثقافة والعلم والسعي إلى السبق والتقدم من خلالهما طريق إلى الحضارة والنهضة والتميز والتفرد، والاستغناء عن الآخرين.

ثانياً: مفهوم الثقافة وأهم خصائصها

1- تعريف الثقافة

يصعب أن نضع تعريفاً محدداً وشاملاً لكل معطيات الثقافة، وما تتميز به من خصائص واتجاهات، إذ أن مكوناتها تختلف من جيل لآخر، كما أنها تتباين بين مجتمع ذي خصائص معينة وآخر، بآماله وطموحاته، لكن الكلمة ترجع في أصلها اللغوي إلى "ثقِف" ومنه ثقفت الشيئ أي حذفته بما يؤدي إلى الفهم وسرعة التعلم، وثقِف الرجل ثقافة أي صار حاذقاً فطناً، وثقف الشيء: أقام المعوج منه وسوّاه.

ويعد التراث الحضاري لكل أمة جذوراً مخصبة للتأصيل الفكري، وتعميقه في الأزمنة الحاضرة، بما يجعل للمفهوم الذي يكاد يقترب من تمام المضمون حدودا مشتركة للثقافة بمفهومها العام.

وأذكر في هذا الصدد تعريفاً منتشراً لأحد المثقفين الغربيين، متداولا بين كثير من المؤلفات والمواقع الإلكترونية، ولا مانع من أن نذكره، ثم نضيف إليه بما يكشف عن المراد منه، هذا المصطلح الذي كثرت الكتابة عنه، وزاد البحث فيه، لأن تفعيله يعطي دلالات قوية على التقدم والازدهار الحضاري على كافة الأصعدة والتوجهات.

والتعريف للأنثروبولجي إدوار تايلور([5]) وهو: "أن ذلك الكل المركب المعقد، الذي يحتوي على النظم الاجتماعية، والعادات والأديان واللغة والفنون والتقاليد والشعائر والطقوس، والاقتصاد والسياسة والأعراف والقيم والمعايير الاجتماعية وكل ما يكتسبه الفرد بوصفه عضواً في مجتمع ما"([6]).

وبالنظر إلى هذا المفهوم نجد أن كثيراً من مكوناته، فضلاً عن تفاعلها مع بعضها تشير إلى التقارب العام بين الثقافات المختلفة، كما أن ثقافة الفرد تنتقل إلى المجتمع، بحيث يصير شمولياً عاماً، يتميز به مجتمع عن آخر، والواقع الحاصل بين الشعوب يؤكد من خلال الفهم والتلقي ومقدار الخضوع للتقاليد، وصولاً إلى شعور كل فرد من الأمة بأنه عضو فيها، ويمكن أن يسهم في تقدمها وازدهارها، فالثقافة صورة للأمة، وثقافة كل شعب صورة معبرة عن طريقة تفكيره، ومستوى إدراكه، وعمق تعامله مع الآخر، حتى لو كان الرأي متباينا،ً فضلاً عن الاختلاف في التراث بما فيه من لغة، وعادات وتقاليد وأديان وآمال وطموحات.

وترتبط الثقافة في الاستعمال العربي بالعلوم الإنسانية، إذ أنها الأكثر تأثيراً في رقي الإنسان وحضارته، لكن المسألة لا تقف عند هذا المعيار، بل تتعداه إلى غيره، ذلك أن العلوم الإنسانية

-خاصة-- هي الأكثر تأثيراً في العواطف والسلوك.

ولابد أن نقرر أن التوافق الثقافي بين الأفراد والمجتمعات بسهم في مزيد من التقارب، وصولاً إلى التوافق من خلال العوامل الفكرية والمعرفية فضلاً عن العوامل السياسية والاجتماعية، وعلى كل فهي توصيف مكتسب من خلال مجموعة من العوامل، التي ترقي في سلوك الإنسان بما يعبر عن مجتمعه وأفراده ومن ثَم إلى التوصيف الثقافي على المستوى الدولي.

ومن المهم أيضاً أن تكون ثقافة الأمة، اتجاهاً عاماً ينعكس على ارتقاء الأذواق والتقدم الحضاري، والتمثيل الصادق لعادات المجتمع وتقاليده وعقائده وديانته، وتراثه وواقعه بما يكشف النقاب عن الآمال والطموحات، التي تأخذ كلَّ أمة من خلالها مركزها ومكانتها، وتقدير الشعوب الأخرى لها، وذلك هو التطور المشاهد في فعاليات المجتمع الدولي، الذي يعبر عنه ويكشف عن بعض تفاصيله: الإعلام والمؤتمرات، وتوصيف مقدار السبق والبروز، وحدود التقدم الحضاري الذي أخذت الدول الناهضة تنشده وتسعى إليه؛ حتى لا يتراجع من المقدمة إلى المؤخرة، أو من الأمام إلى الخلف.

2- خصائص الثقافة

من المؤكد أن الثقافة العامة والمتنوعة تمثل أهمية بالغة، وعلامة فارقة في حياة الشعوب، خاصة أنها سلوك إنساني يترجم عما يختزنه الإنسان من معارف، تنعكس على تعاملاته مع الآخرين، ولننظر كيف حال المجتمع المصري مثلاً في الزمن الراهن، وما كان عليه الشأن في أزمنة احتلال سابقة كان التوجه فيها ليس بإرادة المجتمع وقادته، إذا كانت الإرادة مسلوبة، والتوجه المختار إلى من يملكون إرادته، ويحكمون سلوكه وعلاقاته بالآخرين داخل الوطن وخارجه، ومن هنا تأتي وتتأكد أهمية الثقافة في الارتقاء بالفكر الجماهيري، وصولاً إلى الإسهام بشكل بارز ومؤثر في قيام الدولة وتقوية بنائها، ومن خلال ذلك تتأكد أهمية الثقة والتواصل بين أفراد الشعب، ومن ينوب عنه، ويتحدثون باسمه، ويوجهون إرادته، في ظلال الواقع بما فيه من ثقافة وعلم وفكر وتحضر، تتجلى صورته فيما يسمى "المجتمع المفتوح" إذ أن كل شيئ فيه معروف ومتناقل، ليس على مستوى الدولة الواحدة، ولكن في كل نطاقات المجتمع الدولي.

أ- تتكون الثقافة من جميع المحصولات الثقافية على اختلاف أنواعها واتجاهاتها، وهي إما أن تُقدم للشعب، أو تفرض عليه بالوسائل المعروفة، لكن المسألة لا تقف عن هذا الحد، وإنما يجب أن يسعى المواطن إلى تثقيف نفسه، غير مكتف بما يأتي إليه في طفولته وشبابه، ولذا يلزم أن تكون الثقافة شاملة غير مقتصرة على مرحلة زمنية معينة، أو مجتمع دون آخر، أو طبقة أو فئة دون سواها، وهنا أذكر توجهاً سابقاً أسهم بدرجة --ما- في التحصيل الثقافي ورقية وهو: مكتبة الأسرة، التي كانت الكتب تُعرض من خلاله بكافة الأشكال والأحجام، والتنوع لكثير من الثقافة والمعارف.

ب- ينبغي أن تكون الثقافة مستمرة ودائمة، أي إن الأصل فيها ألا يقتصر على مرحلة معينة من حياة الإنسان، ولكن تبقى سلوكاً متبعاً وهدفاً مرشداً في سائر مراحل عمره، لما تحدثه من تأثير في الفكر والوجدان، وفي التعامل مع الآخرين، وفي التعمق في فهم الماضي والحاضر والمستقبل للمجتمع الذي يحيا به، ويعيش على أرضه وتحت سمائه، إذ يلزم أن تكون عادة متبعة ومتوارثة يتم تحصيلها من كافة مصادرها، دون الاقتصار على لون واحد، أو اتجاه معين من الثقافات، حتى لو كانت معارف قليلة عن أشياء كثيرة.

ج- تزهو كل أمة بلغتها التي تتعامل بها تحدثاً وكتابة وقراءة، واللغة العربية بما لها من ماض قويم في تراثنا الديني، وبما لها من اتساع في سائر نطاقات العالم العربي وغيره من المجتمعات الإسلامية، التي تفتخر بما لديها من معرفة، ربما تصل إلى التمكن في اللغة العربية وجمالها وعمق بلاغتها.

واللغة العربية بصفتها مميزة وداعمة للنمو الثقافي ينبغي أن تنال حظاً من التقدير والتوقير بما تمثله في عمق التراث العربي والإسلامي، وفي المشاهد الحادثة في سائر كيانات الوطن العربي، إذ تُهاجم بين مرحلة وأخرى من دعاة التغريب أو إحلال العامية محلها، أو تعميق اللغات الأجنبية في كيانات الأجيال الجديدة، التي يُناط بها في المستقبل بناء الوطن ودعم رقيه وتقدمه، فالحفاظ على اللغة في سائر القطاعات ينبغي أن يكون توجهاً وتوصيفاً للثقافة الشاملة، ثم يضاف إليها ما يمكن تحصيله والاستحواذ عليه من اللغات الأخرى، التي يتعمق التواصل بها مع المجتمع الدولي، فإذا كانت اللغة من مصادر الثقافة فإنها في عذوبتها وروعتها واتساع مفرداتها خاصية هامة من خواص الثقافة العربية.

د- ينبغي أن تكون الثقافة غير مختزنة، وقابلة للنقل من الآخرين وإليهم، حتى لا تنحصر دوائر التحصيل على مجتمع واحد أو جيل معين، أو حتى نوع محدد من الفكر، فالثقافة في مفهومها العام قابلة للذيوع والانتشار دون الاقتصار على لون أو مصدر واحد أو جيل واحد.

هـ- يجب أن تكون الثقافة مستهدفة للنفع والإفادة، وهنا ربما يسأل سائل: هل بعض الثقافات ليس نافعاً؟ والجواب: نعم ونحن لسنا بصدد تحديد أشكال الثقافة غير النافعة؛ لأن الشواهد كثيرة مثل التثقف بالفكر الضال غير المرشد، وقراءة صنائع السحرة والمنجمين، في ضوء قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُم إلى غير ذلك من الخصائص التي يتسع مجال البحث فيها.

ثالثاً: روافد الثقافة "عواملها"

يصعب --إن لم يكن مستحيلاً- بيان جميع روافد الثقافة ومكوناتها، التي تلتئم مع بعضها، مكونة مجموعة من العوامل المستهدفة؛ لبيان قدرتها على الإسهام في بناء الوطن، ودعم مصادره، وحسن توجيهه، ولكننا سنحتكم إلى التغليب في بيان الروافد، التي تمد الإنسان بالثقافة.. "انطلاقاً من إيمان راسخ بأن الثقافة تشكل المحور الأساسي لبناء الإنسان وإكسابه المهارات والخبرات، التي تمكنه من الإسهام الفاعل في نهضة ورقي مجتمعه"([8]) ويلزم أن ننوه ببعض هذه المصادر؛ تمهيداً لبيان أبعاد دورها في بناء الوطن وحمايته.

1- الأدب شعره ونثره

أ- الشعر ذلك أنه لا يغيب عن الكثيرين مقدار ما يتميز به الشعر في ترقيق الشعور وإنما الإحساس، وإرهاف الذهن، فهو ديوان العرب وسجل مفاخرهم وبطولاتهم منذ العصر الجاهلي، إذ كانت القبائل تفخر بشاعرها، وتمنحه الجوائز والعطاءات، وتجعل له مكانة لا يرتقي إليها غيره، حيث كانوا يحفظون الكثير من الأشعار، لحديثها عنهم، وتمجيدها لواقعهم، كما كانوا يعقدون أسواقاً أدبية تكون الشراكة فيها هدفاً معروفاً ومقصوداً لتمجيد القبيلة، وتسجيل مفاخرها وترقيق أذواقها، ويتحرك الزمن للأمام فيصل إلى عصر المبعث النبوي، فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يختار له شاعراً بل عدداً من الشعراء، غير مكتف بالمقاومة من خلال القتال، لكنه يستعين بالشعر للدفاع عنه، وحماية عقيدته، وبدء تأسيس دولته، وفي العصور التالية كان الحكام والأمراء يختارون من الشعراء والعلماء من يعكفون على تربية أبنائهم، وتحفيظهم الشعر والنثر في حدود مستوياتهم ووفق اتجاه أذواقهم.

ونصل إلى العصر الحديث فنرى الشعر خاصة كان أسلوباً ومنهجاً متبعاً في تحميس الشباب وتحفيزه للإسهام في الدفاع عن الوطن وحماية شبابه، مع حتمية الاستعانة بالعلم التجريبي لمسايرة الحضارة المعاصرة.

وأذكر في هذا الصدد بعض الأبيات للشاعر أحمد شوقي يتجه فيها إلى مخاطبة الشباب للتثقيف بالعلم والشورى؛ لكي يبني دولته وحضارته.

قال:

إن سركَ الملكُ فابنيه على أسس

فاستنهضِ البانين العلم والأدبا

وارفعْ له من بناءِ الحق قاعدةً

ومُدَّ من سبب الشورى له سَبَباً

والشواهد لأحمد شوقي وغيره أكثر من أن تُحصى.

ب- الرواية "القصة القصيرة والقصة الطويلة" فللمبدعين نتاج خالد، وإبداع رائد، ربما يصعب حصره أيضاً، لكن النتاج المتميز لتجنب محفوظ وغيره يجعل من هذا اللون رافداً ثقافياً عظيم التأثير في محبة الوطن، والحفاظ عليه، ودعم تقدمه، وحراسة واقعه والإنارة لمستقبله، وكم كان تأثير بعض الروايات عظيماً ورائعاً في تنمية الوعي القومي، والشعور بأهمية قيام الوطن واستمرار عطائه وتقدمه، ونذكر في هذا الصدد رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم ورواية "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي وغير ذلك كثير.

ج- المسرح- يكون الأدب المسرحي شعراً ونثراً، وقد أبدع الأدباء كثيراً من اللونين، الذي يتحول بتمثيله على المسرح أداة ثقافية تشكل كثيراً من وعي الشعب، ولازلنا نذكر بكل تقدير وإعجاب ما كان عليه الأدب العربي في مصر بما فيه المسرح رافداً ثقافياً متميزاً، حتى لو كان مشاهدوه من طوائف اجتماعية متميزة، لكن الثقافة على عمومها، لا تفرق في تأثيرها بين مجتمع وأخر، أو طائفة وأخرى، والشواهد المتميزة في هذا الصدد كثيرة، ونشير في هذا السياق إلى الدراما التليفزيونية والإذاعية، ومدى تأثيرها في فكر الشعوب.

2- العلم والتعليم

لهذا الموضوع حديث آخر في رافد آتٍ، مذكرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستثمر طاقات الشباب في بناء الدولة، اعتماداً على العلم والتعلم، وكم كان رائعاً في عنايته لهذا الجانب معتمداً في تفعيله على الشباب وحماسته، وقد استثمر الطاقة العلمية للصحابي الجليل زيد بن ثابت، حين وجهه إلى تعلم لغة اليهود في المدينة؛ ليتعرف على ثقافتهم، وكيف يفكرون في واقعهم، وتحديث الأساليب الناجحة، للتعامل معهم بما يسهم في تأسيس دولته، وقيام نهضته.

3- الإعلام

هذا مجال رحب فسيح تتعدد اتجاهاته ونواتجه، لكنه على كل حال عظيم الأثر في التأثير القوي على المستوى الثقافي للمواطنين، ولا ينبغي في هذا الشأن التقليل من رسالته، أو التقليص لدوره، بل يلزم حسن توجيهه بما يحقق النفع المعرفي للمجتمع في كافة برامجه ومعطياته، وذلك مثل الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات وغير ذلك، لكن التأثير على عمومه حادث ومؤكد، ولا ينبغي إغفاله، بل يجب ترشيده، وحسن توجيهه.

4- الإنترنت

الإنترنت وسيلة ثقافية، معرفية، مستحدثة، وقد صارت بما تشمله من إغراء وترغيب محلاً للإعجاب والتقدير من سائر الأعمار، الصغار والكبار، ولا تتوقف بدائع هذا المجال على نوع محدد من الثقافة واللغة، بل احتوى الكثيرين، وأصبح موضعاً مقبولاً لديهم بما يشمله من أخبار وثقافات ومواقع إلكترونية متعددة، لكن بعض المنافذ قد تشتمل على ما يضر ولا يفيد، ولذا يلزم التبصر عند الاستعمال، واختيار الأنسب لكل عمر زمني أو مستوى ثقافي، أو فئة أو طائفة ذات توجه معين، فإذا كانت المواقع الإلكترونية متاحة للجميع كوسيلة ثقافية حديثة، لكن الاستفادة تحدد بمدى قدرة الشخص على اختيار ما يناسبه، وطرح ما عداه.

وأصبح الكِتاب الإلكتروني بديلاً مقبولاً لدى الكثيرين، الذين لم تعد لديهم رغبة واستعداد لتصفح المؤلفات الورقية، مهما كانت روعتها وحسن إعدادها، ثم إن هذه الوسيلة متعددة الأهميات بحيث تُغطي رغبة كل طالب، لأي نوع من المعارف الإنسانية التي يحرص كثير من الناس عليها، ويتعبون في سبيلها، كما أن هذه الوسيلة صارت قادرة على توجيه الشباب إلى سلوكيات متعددة، لم يكن قبلا من المستطاع التفكير فيها والسعي إليها، وذلك بالتوافق عبر الرسائل والإشارات والرموز، التي لا يدخل إليها إلى المشتركون فيها، وعلى دراية بها.

ولا شكل في أن ثقافة الأمة هدف مأمول، وموضع تقدير، بصرف النظر عن أي رافد من روافده، ولتكن الوسيلة --كما تكون- مادام الهدف هو الوصول إلى الغاية المنشودة.

وقد يكون من المعترف به أن نقر باستحقاق كل مثقف لما يسعى إليه ما دامت الوسيلة آمنة، وغير متخوف منها، مع التنبيه إلى مخاطر المبالغة في اللغو والانصراف عن الجِد إلى التسيب، ومن الفكر إلى التخلف، ومن الجهل إلى العلم والتحضر، والحركة دائبة، والتطور مستمر، ولا ندري بما تخبئه الأقدار من مغيبات مستقبلية في دنيا الواقع المعاش.

رابعاً: العلم والتعليم

لقد اهتم الإسلام بالعلم والعلماء اهتماماً عظيماً، وسجل ذلك القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.

والعلماء ورثة الأنبياء والمرسلين، وأفضل العلوم علم القرآن الكريم، فالعلم أساس نهضة الشعوب وقيام الحضارات، وأفضل ما يمكن أن يقدمه المسلم لوطنه هو العلم النافع المفيد، الذي يخدم به نفسه ودينه ومجتمعه، ومن فضل العلم على البشر أن الله تعالى يرفع به أقواماً لم يكن لهم شأن بين الناس، إذ بعلمهم يتصدرون المشاهد، ويشغلون المراكز والمناصب، ويتقدمون الصفوف، واذكر في هذا المشهد موقفاً يدعم ما ذكرنا، فقد روى مسلم أن عمر بن الخطاب كان يستعمل نافع بن عبدالحارث على مكة، فلقيه عمر بعسفان، فقال: من استعملت على أهل هذا الوادى؟([10]) فقال: ابن أبْزَي، قال: ومن ابن أبْزَي؟ قال: مولى من موالينا، استخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قاريء لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" ولا يتحقق العلم إلا بالتعلم الذي تُنشأ له المدارس والمعاهد والكليات، ويكاد يكون التعليم قسيماً للثقافة، ودليلاً مشهوداً على حضارة الأمة وتقدمها، ونؤكد أن العلم قائم بذاته، وعامل من العوامل الرئيسة في قيام الدول، وبناء نهضها، وهو من أهم الروافد الثقافية التي تنهض بدور فاعل ومؤثر في بناء نهضة الدولة وتقدمها؛ لتأخذ مكانها اللائق في الترتيب الدولي وننوه --في إيجاز- لمسيرة التعليم العام، بدءاً من النهضة المصرية الحديثة في عهد محمد علي "باشا" ببداية القرن التاسع عشر، والذي بدأ النهضة بإنشاء الدواوين والاهتمام بالصناعة والزراعة والنهوض بالتعليم، فأنشأ الكثير من المدارس في بعض البلدان، وأرسل البعثات التعليمية إلى أوربا، وكان ذلك موجهاً --غالباً- إلى خدمة الجيش المصري، كما استورد المطابع لنشر الثقافة، وزيادة النمو الحضاري، وبقى ذلك عند بعض خلفائه إلى بدء الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م وحتى عام 1923م، حيث تراجع الاهتمام بالتعليم كثيراً، فقلّ الإنفاق، وصار التعليم الإلزامي قانوناً معطلاً، والاتجاه إلى الكتاتيب الأهلية والحكومية، التي لم تقم بواجبها، والسعي إلى تحويل الفقراء إلى الزراعة وغيرها، وتجلت موجة تغريبية انعكست آثارها على أبناء بعض الطبقات ممن يولون وجوههم شطر أوربا.

ولم يكن الاتجاه السائد في التعليم عربياً خالصاً من عام 1923م إلى عام 1952م، وكانت المسائل السياسية هي محل الاهتمام والنزاع والخلاف بين الأحزاب، وصار الهدف من التعليم قاصراً على إعداد موظفين حكوميين لإدارة شؤون الدولة، وكان التعليم الفني على درجة كبيرة من الضعف والتردي، ونشط الاهتمام بتعليم المرأة ببعض المطالبات من زائدات الحركة النسائية، واللائي اتخذن من أوربا سنداً لهم، ودليلاً على قوة قضيتهم، وامتد إلى حق الفتاة في التعليم الجامعي، ونهض التعلم بالأزهر في الحفاظ على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، واللغة العربية وأدب العرب، وعلوم البلاغة وأصول اللغة، كما حرص من خلال علمائه الأفذاذ على حرية الفكر ووسطية الرأي، والمشاركة في النشاطات السياسية خلال مسيرته الطويلة، وأقرب المشاهد لذلك ما كان من تصديه للحملة الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر، وكان ينتقل بالتطور والتجديد من مرحلة لأخرى إلى عام 1961م الذي جرى فيه إصدار قانون للتطوير بالأزهر، والهيئات التي يشملها، وكان الأزهر خلال هذا التاريخ مستقلاً بنفسه، مقتصراً على مناهجه، غير مشغول كثيراً بالعلوم التجريبية الحديثة.

وقد خضع التعليم العام في مصر بعد ثورة 1952م لكثير من التطوير والتحديث وصارت اهتمامات الدولة موجهة لإزالة هذا الثالوث البغيض وهو "الفقر والجهل والمرض" وتجلى الاهتمام بصورة كبيرة في الاتجاه الثقافي لا وفي ظلال هذا الطرح البياني نؤكد أن العلم الحاصل بالتعلم الطويل أهم الروافد الثقافية بمفهومها العام؛ لأن المثقف أو الثقيف إنسان يتعلم بأقصى ما يستطيع ولم يكتف بما تعلمه، ولكنه يضيف إليه الكثير من المعارف الأخرى، التي يكاد يعرف فيها شيئاً عن كل شيئ في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والحضارة والإعلام والفنون وسائر العلوم الإنسانية، والكثير من العلوم التجريبية الحديثة، فتحصيل الثقافة لا يتوقف عند حدود معينة فهي محيط بلا شاطئ وامتداد بلا آخر، وصار تحصيل الثقافة والعلم شاملاً كل حياة الإنسان، ولا يتوقف على تحصيل شهادة، أو الوصول إلى رتبة، أو تأليف كتاب أو غير ذلك.

خامساً: أثر العوامل الثقافية في بناء الدولة

إن بناء الدولة ليس موجهاً بدرجة --ما- إلى الشروع في قيامها، وبدء إقامة مؤسساتها ولكن الهدف المراد --كما نفهمه أو كما ينبغي أن يفهم- هو بناؤها بمعنى استمرار هذا البناء، ودعم بقائه، والحفاظ على سيادته، وعدم الانتقاص أو اليأس من قدراته في السابق واللاحق، والإسهام في صياغة مستقبلة بما يعني دعم طموحاته، وتفعيل آماله، والقفز بخطوات ثابتة إلى الأمام في ظلال سباق دولي محموم.

والدولة عندما تستهدف شبابها للإسهام في استمرار قيامها وزيادة تقدمها وتحضرها فإنها تعدهم بالثقافة والعلم، وتحصنهم بالقيم والمبادئ والأخلاق من خلال العقائد الدينية الراسخة والثابتة.

وأذكر أنني كنت واحداً --ربما من مئات الألوف أو أكثر- الذين كانت الدولة تعدهم إعداداً ثقافياً وسياسياً منظماً في منتصف الستينيات من القرن الماضي، خارج قاعات الدراسة العلمية في دورات منتظمة([11])وأذكر ذلك التاريخ كتجربة، وليس لشيئ آخر، واعتقد أن هذه المكونات الثقافية والسياسية لدى هذا الشباب، ومن بينه من كانوا طلاباً في الجامعات، وكانت الحماسة الوطنية لبقاء الوطن، والتي اشتملتهم كانت من الدوافع الصادقة التي خرج بمقتضاها في التاسع والعاشر من يونيو عام 1967م مطالباً بالصمود، واستمرار التصدي للعدوان، وبقاء الرئيس، الذي كان رمزاً للقوة آنذاك لإعادة بناء القوات المسلحة، وما هي إلا ست سنوات، تمّ الانتقال فيها إلى كيان ثابت متماسك تحقق بمقتضاه ما كان من نواتج حرب العاشر من رمضان 1393هـ السادس من أكتوبر 1973م.

ويسجل التاريخ الحديث والمعاصر نماذج لشخصيات مصرية بارزة فوق الحصر، صنعت كثيراً من الإنجازات على أرض الوطن وخارجه، ورحل ومات هؤلاء العظام بصنائعهم الخالدة لبناء الوطن، وبقى هذا التاريخ شاهداً ومقدرا لهم من خلال مآثرهم وسائر صنائعهم في شتى المجالات العلمية والثقافية والدينية، بما يؤكد عمق التجارب في كيان العظماء بما يجعلهم قدوة رائعة للشباب وسائر المثقفين بالأزمنة اللاحقة.

1- نذكر من هذه النماذج شخصية مصرية رائدة في التعليم والثقافة، فضلا عن الأدب والتاريخ، هو ذلك العلم المصري على مبارك(1824-1893م) وتاريخه حافل، وسجله رائع في خدمة التعليم والثقافة.

وقد سافر إلى فرنسا في إحدى البعثات التعليمية زمن محمد على، ليجمع بين التعليم المدني والتعليم العسكري بعد أن تخرج من مدرسة (المهندسخانة ببولاق) وتعلم في بعثته اللغة الفرنسية، وعاد إلى مصر بعد خمس سنوات، ومنح رتبة (يوزباشي أول) وأُلحق بفرقة عسكرية سافرت لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، وبقى سنتين تعلم فيهما اللغة التركية، وتقلب في الوظائف العسكرية، وعمل في الوظائف المدنية، حتى تولى أكثر من وزارة إلى أن اعتكف في آخر حياته للكتابة والتأليف.

ونذكر ذلك لبيان جهوده في إصلاح التعليم بعد عهد محمد على، ففي عهد إسماعيل كان لعلى مبارك الفضل في زيادة الإنشاء للمدارس، بحيث لا تكون قاصرة على القاهرة والإسكندرية؛ وشرع في إصلاح التعليم بالأزهر، بعد أن كانت الدولة لا تعطيه أي اهتمام، وأسهم في الانتقال بالتعليم من كونه لمصلحة الجيش فقط إلى أن يكون لعامة الشعب.

ويرجع إليه الفضل في صدور ما سُمّى بلائحة (رجب)، وهو شهر صدورها، والتي كتب عنها العلامة أحمد أمين قائلا: "تُعد بحق خطوة خطيرة في تاريخ التعليم في مصر، عالج فيها كل المشاكل التي صادفته من مراعاة الأمور الصحية، وتدبير المال اللازم، ورفع مستوى الفقهاء -- وقد سماهم "المؤدبين" وبرامج التعليم ووسائل تشجيعه، وإشراك الأهالي والمديريات في حمل بعض الأعباء المالية والتعليمية، وتحويل بعض الكتاتيب الكبيرة الصالحة إلى مدارس ابتدائية، ووجه في تنفيذ ذلك كل قواه، وكثيرا ما كان يُعهد إليه --إلى إدارة المدارس- في إدارة الأشغال وإدارة الأوقاف فيكون ناظر هذه جميعها (وزيرها) فيسخر الأشغال لإصلاح مباني المدارس والكتاتيب، ويصرف من مال الأوقاف على التعليم، حتى انتقل التعليم به نقلة جديدة"([12])

وأنشأ على مبارك مدرسة دار العلوم (العليا) يُؤخذ لها من خيرة طلبة الأزهر بهدف رئيس وهو تخريج المعلم بشكل يختلف عمن يخرجهم الأزهر.

ولم ينصرف عن الثقافة العامة بجانب التعليم في المدارس، وبرزت من أعماله في ذلك ثلاثة أشياء

أ- إنشاء قاعة للمحاضرات، يحاضر فيها كبار الأساتذة من مصريين وأجانب، وهذه المحاضرات يومية وفي سائر المعارف والثقافات الإنسانية.

ب- إنشاء مجلة سميت (روضة المدارس) والتي أُسند تحريرها إلى الشيخ رفاعة الطهطاوي، وكان يطلب من الأساتذة أن يمدوها بالمقالات، خاصة ما كان يُلقى في قاعة المحاضرات.

ج- إنشاء دار الكتب الخديوية ... "وقد كانت الكتب قبل ذلك متفرقة في المساجد، أو الأماكن المهجورة، وعُرضة للسرقة أو التلف، فجمعها في مكان واحد، ورتبها، وسهّل الاستفادة منها، وجعل لها قاعة مطالعة"([13])وكان ذلك في عهد الخديوي إسماعيل.

ولا شك في أن النهضة في التعليم آنذاك صاحبتها نهضة أخرى في التأليف والترجمة، أسهم فيها على مبارك بنصيب وافر، فألف في الثقافة العامة ما سماه (الخطط التوفيقية) يصف فيها مدن مصر وقراها، مفصَّلة ومرتبة على حروف الهجاء، وطُبع هذا الكتاب في عشرين جزءا، وألف رواية باسم (علم الدين) والتي تحكي قصة شيخ تربى في الأزهر، وتتلمذ على يديه مستشرق إنجليزي، والذي دعاه لزيارة إنجلترا، فلبى الدعوة، وتعلم اللغة الإنجليزية من الشيخ أولا، ثم تغير الأمر بعد السفر، فتحول الشيخ إلى تلميذ، والإنجليزي إلى معلم، وشاهد الشيخ الأزهري سائر المستحدثات في أوروبا وأعجب بها، وكانت تلك دعوة للثقافة العامة والتحضر والانفتاح على سائر الحضارات وعدم الانغلاق، إلى غير ذلك من الإسهامات، التي نهض بها على مبارك في سائر مناحي التعليم والثقافة.

2- الدكتور طه حسين (1889م-1973م) ومستقبل الثقافة في مصر

شغل الدكتور طه حسين الأدباء والمثقفين في مصر وغيرها من بعض البلدان العربية والإسلامية، فقد تعلم في الأزهر (وهو كفيف البصر) والتحق بالجامعة المصرية، وحصل على الدكتوراه من فرنسا بعد بعثة تعليمية إليها، وكان أن درس اللغة الفرنسية، وعشق الحضارة الأوربية بعد أن تزوج من فرنسية، جاءت معه إلى مصر، وبقيت إلى جواره حتى آخر حياته.

وقدم عددا من المؤلفات الإسلامية والأدبية والإبداعية الرائعة، استحق بها عن جدارة أن ينال عمادة الأدب العربي، وأن يرقى حتى يصير وزيرا للمعارف، أما ما أُشْغِل المثقفين به فهو كتابان أولهما ليس داخلا في الحديث وهو: (في الشعر الجاهلي) الذي أثار من المشكلات ما جعل قضيته تُعرض للمناقشة في البرلمان المصري، ثم يصدر بحقها حكم قضائي شهير.

أما الكتاب الثاني وهو صلب حديثنا فهو (مستقبل الثقافة في مصر) الذي أتمّ إملاءه في يوليو عام 1938م، وعرض فيه لموضوعات ثقافية كثيرة، بدا فيها جميعا صادقا مع نفسه، محبا لوطنه، عاشقا لترابه، وآمن بفكره الكثيرون، حيث طالب بأن يكون التعليم ليس كما هو في مدارس مصر العليا، وجامعتها التي أنشئت أهلية عام 1908م لا كما هو عليه الشأن في التعليم الديني الذي ينهض به الأزهر الشريف، وإنما ينبغي أن يكون كما هو في أوربا إلى غير ذلك من الرؤى والاتجاهات، لكن قسيما مشتركا من المثقفين بدا لديهم على أنه يريد أن يسلخ الوطن من عقائده وأفكاره وتراثه، وأن يجعل الواقع مجردا من قداسة لغته وسمو دينه، وعمق عاداته وتقاليده، إيمانا بفكرة الاستغراب أو التغريب، الذي بمقتضاه تكون منابع الثقافة من الغرب، وعلى طريقته وفكره واتجاهاته بدرجات ومستويات متعددة تتضح في العرض كهذا الكتاب

وتساءل : "أمصر من الشرق أم من الغرب"([14]) ويقصد الشرق الثقافي والغرب الثقافي، ثم يتساءل ثانيا، ليدلل على أن العقل المصري أقرب إلى أوربا : "أيهما أيسر على العقل المصري أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي"([15]) ويؤكد عمق العلاقات بين مصر والحضارة اليونانية في عصور ازدهارها، وذلك لوجود تضامن مصر مع الغرب الأدبي دون الشرق الأقصى، ويذكر أن الاتصال بأوربا عن طريق البحر الأبيض المتوسط، وأن هذا البحر: "يُنشئ في الغرب عقلا ممتازا متفوقا، ويترك الشرق بلا عقل، أو يُنشئ فيه عقلا منحطا ضعيفا"([16])، ويدعم ما كان يقوله الخديوي إسماعيل من أنه يريد أن يجعل مصر جزءا من أوربا، فيقول :"إن ذلك ليس لونا من ألوان المفاخرة، وإنما كانت مصر جزءا من أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها"([17]) وقال إن مصر حمت نفسها من سائر غارات الشرق، وإن لم يشر إلى ما كان من الحملات الصليبية على مصر والشام.

وذكر أن مصر سارت حيث النهج الأوربي في التعليم، ومد الطرق الحديدية، وأسلاك التلغراف والتليفون فمددناها، وصنعا صنيعا في موائد الطعام وأدواته وألوانه، وصنعنا صنيعهم في الملابس، غير مميزين لما يحسن وما لا يحسن، وخلاصة ما يراه مكتفيا بذلك هو أن مستقبل الثقافة في مصر ينبغي أن يكون أوربيا خالصا بلا نزاع في ذلك.

وختم الكتاب المذكور بحُلمه في هذا المستقبل، حيث يؤكد صدقه في البوح بما يراه قال: "نعم أرسل نفسي على سجيتها في هذا الحلم الرائع الجميل، فأرى مصر وقد بذلت ما دعوتها إلى بذله، من جهد في تعهد ثقافتها بالعناية الخالصة، والرعاية الصادقة، وأرى مصر، وقد ظفرت بما وعدتها بالظفر به فانجاب عنها الجهل وأظلها العلم والمعرفة، وشملت ثقافاتها أهلها جميعا، فأخذ بحظه منها الغني والفقير والقوي والضعيف والنابه والخامل والناشئ ومن تقدمت به السن وتغلفت لذتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والدور والأكواخ، وشاعت في مصر كلها حياة جديدة، وانبعث في مصر كلها نشاط جديد، وأصبحت مصر جنة الله في أرضه حقا يسكنها قوم سعداء، ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة، وإنما يشركون غيرهم فيها، وأصبحت مصر كنانة الله في أرضه حقا، يعتز بها قوم أعزاء، ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة، وإنما يفيضون على غيرهم منها"([18]) وسارت الثقافة المصرية حاملة عراقة الشرق وأصالة الغرب، منفتحة على كل الثقافات، دون أن تحصر نفسها في الشرق الأقصى أو الغرب الأدنى.

3- كان الدكتور ثروت عكاشة (1921م-2012م) من الضباط الأحرار، الذين قاموا بثورة يوليو 1952م، ولكنه اختار الثقافة طريقا لمسيرته، التي كشفت عن عمق تجربته في الارتباط الوثيق بين الثقافة والمجتمع، ذلك أن الثقافة نتاج اجتماعي أفرزته جماعة معينة، ولذا تكون دراستها من خلال المجتمعات، مع قابليتها للانتقال من جيل الكبار إلى الأجيال التالية لهم، ومن خلال عمليات التثقيف الاجتماعي، وصولا إلى أن الثقافة طريق متميز، ونمط متكامل لحياة أفراد المجتمع، وأعتقد أن هذا الطريق هو الذي سلكه ثروت عكاشة في تجربته مع الثقافة، حيث عاش حياته راهبا في محرابها، قارئا محبا، ووزيرا صاحب قضية كبرى، ومؤلفا مبدعا بما يدعم التثقيف الاجتماعي، وناقدا ومفكرا، وكتب عنه فاروق جويدة قائلا: "اختار ثروت عكاشة عندما قامت ثورة يوليو أن يكون ضميرها فانسحب من صراعات السياسة، ليأخذ مكانا قصيا يبني به عقل هذا الشعب"([19])، وقد كان ذلك بكل تأكيد هو الأبقى والأفضل بمقاييس الزمان والأيام، ومعه كما يقول جويدة: "تحولت قصور الإقطاعيين التي صادرتها الثورة إلى قصور للثقافة، أضاءت أرجاء مصر بالفنون الراقية والثقافة الجادة، وأنشأ أكاديمية الفنون، التي تحولت إلى جامعة للفن المصري تخرجت منها مواكب الفنانين المصريين في المسرح والسينما والنقد"([20]).

وكان ثروت عكاشة قد تولى وزارة الثقافة لمدة ست سنوات ما بين عامي 1958م، 1970م، خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وقد بنى خلال هذه الفترة مؤسسات ثقافية، لا زالت قائمة حتى الآن، وأسس جهاز الثقافة الجماهيرية بما أدمج المثقفين في مؤسسة الدولة، واستطاع أن يصل بالثقافة إلى مختلف مناطق مصر، ونهض بجهود رائعة في إنقاذ آثار النوبة خلال سنوات بناء السد العالي، وتم ذلك بنجاح خارق، وكشف عن تجربته خلال عمله بالوزارة وقيامه بالمهام الثقافية الأخرى في المذكرات التي كتبها تحت عنوان: مذكراتي في الثقافة والسياسة.

وقدم مؤلفات موسوعية زادت عن سبعين كتابا، وقُدر في أخر حياته بما يستحق فنال الدكتوراة الفخرية في العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1995م.

إن الدور الذي نهض به المثقفون في بناء مصر دور مؤثر وبارز فهم قادة للفكر ورموز للحضارة، ويُقتدي بهم في الإسهامات العظيمة التي يستند عليها الوطن في بقائه ودوام عطائه، واستمرار تقدمه، حتى يتجاوز ما يمكن أن يلحق به من إعاقات، لا ينبغي أن تؤثر في نموه وازدهاره وإشعاعه، وسعيه إلى التقدم والبروز في مسيرته الحضارية.

سادسا: النتائج

1- يشكل قيام الدولة وبناؤها أساساً هاما في استقرار الشعوب، وإدارة شؤونها وقيام نهضتها، ولا يتصور قيام الأنظمة الحاكمة واستقرارها إلا بالعديد من المقومات المنظمة لحركة الحياة من سياسية واقتصادية وثقافية وغيرها.

2- الدولة كيان قائم ومعترف به، ولها حدود ومعالم، وماض وحاضر، وآمال وطموحات، تسهم الشعوب بما تملكه من ثقافة وعلم في صناعة الواقع وتقدمه وحسن العلاقات بين الأمم المختلفة، والكيانات الحادثة، التي باجتماعها ومواقفها وتحضرها تبنى الدول وتزدهر الحضارات.

3- يتعدد مفهومات الثقافة لارتباطها بالوطن، الذي يحتكم إلى التراث، والقيم والمبادئ والعادات والتقاليد، التي تختلف من كيان إلى آخر دون تعارضات مع كيانات أخرى قائمة.

4- ينبغي أن تكون الثقافة مستمرة ودائمة بحيث لا تقتصر على مرحلة معينة من حياة الإنسان، ولا تتخلى عنها الدولة في أي مرحلة من مسيرتها.

5- يُعد العلم والتعليم من أهم الروافد الثقافية، ولا تختلف الروافد على عمومها بين دولة وأخرى.

6- اسهم كثير من العلماء والمثقفين في بناء الوطن، واستمرار مسيرته بما يؤكد أن بناء الدولة مسؤولية مشتركة يتحملها الأفراد والمجتمعات وسائر التكتلات الحزبية من خلال دور الثقافة ومعاهد التعليم في شتى مراحله.

دكتور/ السيد محمد الديب
sayed.addeeb@hotmail.com


(*) بحث مقدم للمؤتمر الثلاثين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعنوانه "فقه بناء الدول دراسة فقهية عصرية" والذي سيعقد في القاهرة يومي 15، 16/ سبتمبر 2019م.

والبحث ضمن موضوعات المحور الثالث وعنوانه "العوامل الثقافية".

([1]) المعجم الوسيط "مادة دول".
([2]) موقع "الموسوعة الحرة" بالإنترنت.
([3]) آل عمران 140.
([4]) ميكيافيلي هو: نيوكولو ميكيافيلي، الذي ولد في فلورنسا بإيطاليا في الثالث من مايو 1469م، المتوفى بها في الحادي والعشرين من يوليو 1527م، وكان مفكراً وفيلسوفاً سياسياً إيطاليا أبان عصر النهضة، ومن أهم مؤلفاته كتابة "الأمير" ومن أشهر أقواله "الغاية تبرر الوسيلة".
([5]) ادوارد تايلور: أنتروبولوجي انجليزي مولود في الثاني من أكتوبر 1832م ومتوفى في الثاني من يناير عام 1917م، وقد عمل أستاذاً لعلم الإنسان في جامعة إكسفورد. "الإنترنت موقع الموسوعة الحرة".
([6]) موقع بالإنترنت "وزي -- وزي".
([7]) البقرة 102.
([8]) الحياة الثقافية في الإمارات ص7 طبع سفارة الإمارات بالقاهرة.
([9]) المجادلة 11.
([10]) يقصد مكة المكرمة، وابن ابزي المذكور هو: أبو سعيد عبدالرحمن بن أبزي، مولى نافع بن عبدالحارث الخزاعي وهو غلام أسود، من مكة، وترجم له البخاري في صحيحه، ترجم له ابن حجر في الإصابة، وكُتب عنه في غير ذلك.
([11]) كانت أماكن هذه الدورات منتشرة في العديد من المحافظات، وكنت اتلقاها في معهد الدراسات الاشتراكية بالمنشية التابعة لمركز بلبيس بالشرقية وذلك ضمن المستهدف من منظمات الشباب "نوفمبر 1966م".
([12]) زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص195 طبع النهضة المصرية 1949م.
([13]) السابق ص 197.
([14]) مستقبل الثقافة في مصر ص 13 طبع دار المعارف عام 1944م .
([15]) السابق ص 13.
([16]) السابق ص 27.
([17]) السابق ص 27.
([18]) مستقبل الثقافة في مصر ص396.
([19]) الأهرام في 29 /2 /2012 .
([20]) السابق في 29 /2 /2012 .