لقد دعا القرآن الكريم في كثير من الآيات إلى أخذ العبرة من الآخرين، للتعلم منها والاستفادة بها، فيما يتصل بالعمل للدنيا والآخرة.

والعبرة: هي العظة والتجربة والدرس المفيد، وهي الخبرة التي تتكون في الإنسان من كثرة أعماله ومشاهداته، التي تعمقت لديه، فصار مؤهلا للإفادة والإجابة عما يُستفتي فيه، قال تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).([1])

والاعتبار خلق قرآني، وفضيلة إسلامية، ودعوة من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الاعتبار معنى النظر والتأمل والتفكر والتأثر بمخلوقات الله في الأرض والسماء، فلقد وهب الله تعالى الإنسان البصر والبصيرة، ليتأمل فيما حوله من مشاهدات، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).([2])

وقيل: "وفي الاعتبار معنى الإحساس بدلالات الآيات، سواء أكانت حسية أم معنوية، وفيه معنى التأمل والتفكر مما يربّى في نفس المعتبر فضيلة التأثر بالعظة والاستجابة للنصيحة، والتقبل للتوجيه، والإفادة من سابق التجارب، أو قائم الدلائل والمشاهد"([3])، قال تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).([4])

دعوة الإسلام إلى الاعتبار:

لقد تعددت بيانات الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن العبرة والاعتبار، فقال عليه الصلاة والسلام في شأن رجل خرج بصدقته فوضعها في أيادي عدد من الناس، ومنهم الغني، وليم الرجل على دفعه الصدقة إلى النماذج المذكورة، فقال الرسول: "ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله..". ([5])

وقد تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا شموليا واسعاً عن بعض الأخلاق الإسلامية الحميدة، التي كانت وصاية إلهية مباركة، بثها الرسول بيانا شافياً وهديا منيراً، وختمها بتأكيد التوظيف للنظر في العظة والاعتبار، قال عليه الصلاة والسلام: "أمرني ربي بتسع، وجاء في آخرها: "وأن يكون صمتي فكرا ونطقي ذكرا ونظري عبرة"([6])

وقد تجلت عناية إمام المتقين علي كرم الله وجهه بالاعتبار، وأفاض في بيانه ودلالته([7])، ومن أقواله رضي الله عنه: "ما أكثر العبر، وأقل الاعتبار"، ومفاد ذلك أن المشاهد الحياتية المؤهلة للاتعاظ بها، والاستفادة منها كثيرة، ولكن المعوّل عليه في هذا الشأن عدم ركون الناس إلى ذلك، واستغنائهم عن التأمل والاعتبار، قال الشاعر:

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد

ذلك أن تصاريف الحياة تفضي بالمسموع منها والمشهود إلى العظة والعبرة؛ حتى يعلو ويسمو إيمان المؤمن؛ لالتزامه، ولعلمه بما جاءت الدعوة إليه ونذكر في هذا الشأن كلمة معبرة للعابد الزاهد حاتم الأصم قال: "الشهوة ثلاثة: شهوة في الأكل، وشهوة في الكلام، وشهوة في النظر، فاحفظ الأكل بالثقة، واللسان بالصدق، والنظر بالعبرة"([8])

وقد كشف القرآن الكريم عن دواعي الاعتبار بما حدث في غزوة بدر وذلك في قوله تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ)([9]).

فقد التقت القوة الإسلامية القليلة العدد مع جيش قريش الكثير العدد والعتاد برجاله وسائر أثريائه، هؤلاء الذين كانت لديهم عزيمة قوية على إبادة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المياه في بدر، وكانت النتيجة الحاسمة انتصارا للقوة القليلة الصائمة، المؤيدة بنصر الله، مما أوهن جموع القبائل العربية المراقبة للأحداث، وأعطى ذلك دروسا داعمة لخُلُق الاعتبار عند ذوي البصائر، التي يتأهلون بها لتفعيل العبرة والاعتبار.

الاعتبار بقصص السابقين:

عرض القرآن الكريم للكثير من القصص بحق الأمم السابقة، التي عاندت من بُعث فيهم وأرسل إليهم، وتصدت لهم، ونزل في هذا الشأن آيات من القرآن الكريم، لحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر على قومه، وإخبارهم بما كان من انتصارات الحق والنور، على الشرك والضلال، كما أن القصص القرآني قد أفاد في بيان الأحداث المتواصلة، التي عاشها الأنبياء طوال مسيرتهم، ومن ذلك ما ذكر بحق نبي الله يوسف الذي جاءت قصته كاملة في سورة باسمه، فضلا عن ورودها في سور أخرى، ولقد خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم في أولها وذلك بقول الله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ)([10])، ثم جاء في ختامها قول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ).([11])

فالحديث عن قصص السابقين محل للعظة والاعتبار، وقوله تعالى: (فِي قَصَصِهِمْ) عن يوسف وأبيه وإخوته ، التي طالت الأحداث فيها بما يجلعها من أولها إلى آخرها مواضع دالة ودروسا معبرة لجميع البشر، ويمكن أن يكون قوله: (فِي قَصَصِهِمْ) ممتدا إلى سائر الرسل، الذين عرض القرآن الكريم مواقف كثيرة من حيواتهم الجهادية المعبرة، وتعددت آيات الوحى الكريم بحق قصة موسى عليه السلام، وما كان فيها من الأحداث الكثيرة المؤهلة للنظر إليها، والتأمل فيها والاعتبار بها، وورود الكثير منها بإيجاز في سورة النازعات، وخُتمت بقول الله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى)([12])، أي يخشع ويتدبر ويعتبر الاعتبار بالتجارب الحاضرة.

يعتقد كثير من الناس أن ما لديهم من الإمكانات الذهنية والحصائل المعرفية ما يغنيهم عن التعرف على التجارب الحياتية للآخرين لمعرفتها والاستفادة منها، وكذلك ربما تعرضوا للفشل والخسارة والتراجع عن المستهدف لديهم، لكنهم يكابرون، ويعبدون أهواءهم المضلة، وخبراتهم الهشة، التي لا تصمد أمام العواصف المفاجئة، والصادمة للتوقعات المتخيلة، إذ من المخاطر التي تحيق بالإنسان عدم اعتباره بالأحداث والمشاهدات التي عُرضت أمامه بالرؤية، أو نقلت إليه بالسماع دون أن يعتبر بها ويستفيد منها بما يُعد مكابرة تحيق به، أو غشاوة تحجب بصره، مفضلا أن يبدأ طريقه دون أن يتعلم ممن سبقه وتقدم عليه، فالتغافل عن تجارب الآخرين يفقد الإنسان إمكانية الاستفادة من معارف جديدة يمكن أن تؤول إليه بلا عناء، علما بأن الإنسان عندما يسلك طريقا، أو يخوض تجربة فإنه يتحرك بصفة فردية، لكنه عندما يعتبر بالأحداث الجمعية فإنه يُغلّب رأي الجماعة على رأي الفرد، إذ يظن هؤلاء الغافلون أن التجارب متشابهة، والطريق إليها واضح، ويفضل – عن غفلة – أن يخوض الأحداث بنفسه لمزيد – كما يقال – من الصقل والتعلم الذاتى، ولكن إذا كان الأمر كذلك فما قيمة الاستشارة، ودراسات الجدوى، والاحتكام إلى أهل الخبرة؟ ثم إن كثيرا من حالات الفشل ترجع إلى التسرع في اتخاذ القرار، وعدم الاستفادة من تجارب الآخرين، والعيش في أوهام الثقة الزائدة بالنفس، وعبادة الذات، وتقديس "الأنا" قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)([13])

فما أعظم أن يعود الإنسان إلى نفسه، ويعرف حدود إنسانيته، ويجب عليه وقاية حياته، وحماية ذاته، وإنجاح مسيرته بالنظر إلى المشاهدات، وتأمل الأحداث، والاعتبار بكل ما يراه ويسمعه، والاستفادة من تجارب الآخرين.

د/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com

([1]) فاطر 14.
([2]) ق 37.
([3]) موسوعة أخلاق القرآن للدكتور/ احمد الشرباصي، جـ1، ص131
([4]) الحشر 2.
([5]) صحيح مسلم باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها ورواه النسائي والبيهقي وابن حبان.
([6]) جامع الأصول في أحاديث الرسول، لمجد الدين (ابن الأثير) المتوفى 606هـ.
([7]) انظر نهج البلاغية ففيه الكثير.
([8]) نقلا عن موسوعة أخلاق القرآن، ج1، ص138.
([9]) آل عمران 13.
([10]) يوسف 3.
([11]) يوسف 111.
([12]) النازعات 26
([13]) الجاثية 23.