أولاً: النهضة الأدبية الحديثة، وأهم أسبابها وتجلياتها.
بدأ الأدب العربي بسائر فنونه في التراجع من حيث الشكل والمضمون، وذلك في نهاية العصر العباسي، عندما شَرَعت العناصر غير العربية في اقتحام بلدان الشرق الإسلامي من فُرس وترك، وعناصر أخرى.
ولما سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية بفعل التتر (عام 656هـ) تفرقت حبات العقد، الذي اشتمل الجنس العربي شرقا وغرباً، وبدأت تظهر قوميات مختلفة، ونزعات متمردة، وأسفر ذلك عن الإسراع في خطوات التراجع والضعف في اللغة العربية وأدبها الفصيح، وبدأ هذا التراجع في مصر قبل حدوثه في مراكز الحكم العباسي، وذلك من خلال المماليك الذين شرعوا في إدارة النشاط السياسي في مصر والشام، دون اعتبار لحكاية نهضة الأدب أو تراجعه، وبدأت اللهجات العامية في اقتحام مجالات الفصحى، خاصة في الشعر، وهو فن العربية الأول.
وتوالت العناصر غير العربية في التتابع على بلدان العالم الإسلامي، إلى أن تفتحت عيون المثقفين، وسائر الأدباء على إطلالة جديدة مقتحمة للدول العربية، وأعني بذلك حملة نابليون بونابرت على مصر والشام، ولم تكن الأحوال السياسية وظلالها على فنون الأدب بأحسن أو أفضل مما تفتحت عليه عيون المصريين والشوام على بعض بواعث النهضة، كالطباعة والصحافة والترجمة وسائر العوامل التي سنعرض لها، والذي تاثر بها بشكل بارز عهد محمد على، وما ارتهن بنهضته من حرص على الاستفادة من علوم الغرب وحضارته، التي كانت قد ظهرت في أوربا بعد عهود الظلام، التي اشتملت تلك البلدان والتي كانت على علم بما يجري في دول الشرق، حيث ارتهن ذلك بمجموعة من الصراعات التي لم يكن للحوار بين الحضارات أي وجود على سطح الواقع، لكن النهضة التي تجلت في إبداع الأدباء شعرا ونثرا وتأليفا لسائر العلوم المستحدثة -- لم تولد بين عشية وضحاها- ولعلها في نطاق مصر والشام قد بدأت على استحياء بعد ثورة أحمد عرابي، ومن ثم الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م إذ ظهر أدباء متميزون تاثروا بالتراث العربي القديم، وربما اشتملتهم الحضارة الوافدة بدرجات مختلفة بين شخص وآخر، وكان ظهور الشاعر محمود سامي البارودي، الذي لقب برب السيف والقلم قبل ذلك إعلانا عن ولادة النهضة الأدبية الحديثة، والتي كان للمستشرقين أثر فيها بصور مختلفة، من حيث الزمان والمكان والقيمة، احتكاما لمستوى التاثر، الذي يحتاج أيضا إلى رصد متسع وتحليل وتدقيق عميق.
ولم تقتصر النهضة على مصر بل شملت بلدانا عربية أخرى، كانت ذات نشاطات بارزة ومتوهجة، خاصة في النشاطات الأدبية والثقافية كلبنان وسورية والعراق.
وكان ذلك -- بكل تأكيد -- وفي بعض جوانبه من آثار التواصل العربي مع الغرب، كما أن بعض أدباء الشام لم ينتظروا إلى أن تاتي إليهم عوامل الانتقال النهضوي، وإنما تركوا أوطانهم وجاءوا إلى مصر التي كانت الأسبق في التواصل مع الغرب، منذ حملة نابليون وما تلاها، حيث أدار محمد علي شؤون الحكم بها، وبقي القليل من هؤلاء هنا في مصر، وكانت لهم أياد في الفن المسرحي والصحافة والترجمة وبعض الأسباب الأخرى للنهضة الحديثة، فمنهم من انتقل إلى أوربا، وأكثرهم ارتحل إلى الأمريكتين، والذين استقروا في أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية، وصار أدب المهجر الذي كتب باللغة العربية المتجددة مظهرا من مظاهر ازدهار النهضة الأدبية الحديثة، سواء في داخل الوطن أم خارجه بالبلدان الأوربية والأمريكية البعيدة.
وقد أفاض مؤرخو الأدب وناقدوه في كشف عوامل هذه النهضة وبعثها، وكان للمستشرقين جهد لا ينكر وإن كانت نتاجاتهم لم تكن بمستوى واحد، ونؤكد أن بعض عوامل النهضة الحديثة لا علاقة لها بالمستشرقين، إذ أن هذه النهضة التي جاءت مواكبة لسعي الشعوب إلى التحضر مع تعدد الأسباب واختلافها بين مجتمع وآخر، فهذه النهضة ترجع أساسا إلى عاملين مهمين:
أولهما: عودة الأدباء إلى احتذاء النماذج الرائعة من عصور القوة في مسيرة الأدب العربي، ويبدو ذلك في الإبداع الأدبي في العصر العباسي، خاصة القرون الثلاثة الأولى منه، فضلا عن المنابع التي تشبع منها هذا الأدب، ونقصد العصر الجاهلي فهذه العودة ظهرت بشكل واضح في شعر البارودي، الذي خلفه أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهما من الشعراء المصريين والعرب، كما تجلى تطور النثر الأدبي في نتاج مصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي وعبد العزيز البشري ومحمد حسين هيكل وغيرهم، إذ يبدو أن هؤلاء العظام قد شربوا من نتاجات أبي حيان التوحيدي والجاحظ وغيرهما من أدباء عصر القوة.
ويبقى العامل الثاني، ونقصد به التاثر بأدباء الغرب في سائر الفنون الأدبية وباقي الفنون الأخرى، وظهر ذلك في كتابة القصة القصيرة والرواية والمسرح شعرا ونثرا، كما أن التلاقى بين الشرق والغرب من خلال الاستشراق قد أسهم في بروز النهضة الأدبية في العصر الحديث، وجاء مصاحبا لهذا التواصل بعض العوامل، التي كان لها تاثير بالغ في الانتقال بالأدب من عصور الضعف، حتى لو كان نسبياً -- زمن المماليك والعثمانيين -- إلى زمن النهضة بدءاً من عصر البارودي، تلك التي شاهدناها في الشعر على اختلاف ألوانه، كما وضحت في القصة والرواية والمقال والمسرح، الذي بدأت كتابته بالشعر ثم اقتحم عالم النثر.
ونستطيع أن نقول: إن النهضة المنبعثة في أرض الواقع العربي ترجع في شق كبير منها إلى الاستشراق والمستشرقين، وهؤلاء لهم تاثير لا ينبغي إغفاله أو التقليل من تاثيره، حتى لو انحرف بعض المستشرقين عن جادة الطريق، واتبعوا أهواءهم، وأساءوا إلى الإسلام في مجال الدراسات الدينية، ولكن الأمر في الدراسات الأدبية مختلف، حيث أسهموا في رقيها بما كان لهم من مجهودات عديدة، أما من اتجهوا إلى دراسة الإسلام فلم يكونوا على نمط واحد، إذ كان منهم المنصف المعتدل، ولعلهم كانوا قلة، أما الآخرون فقد اتجهوا إلى الطعن في الإسلام والإساءة إليه، ومن الخطأ رفض الاستشراق إجمالا وقبوله على الإطلاق، فالمستشرقون -- كما قلت في دراسة لي سابقة -- ليسوا سواء.
وينبغي أن نذكر بعض الأسباب المحفزة على تطور الأدب، والتي لا علاقة لها بالمستشرقين، وأخص من هذه الأسباب اليقظة الوطنية، التي تميزت بالصدق والإجادة في الإبداع، كما أن الاتجاه إلى التعليم منذ عهد محمد علي كان له دور بالغ في نهضة الأدب ورقيه، مع أن هذا الرجل لم يكن لسانه عربياً، كما أن إنشاء الجامعة المصرية في وقت لاحق، قد أسهم في هذا التطور بشكل واضح، فقد اتسعت مجالات التعليم في سائر ربوع الوطن، علماً بأن دور الأزهر في الحفاظ على اللغة العربية الفصحى لم يكن خافيا على أحد، وظهرت توجهات الأدباء في درس اللغة والأدب، فظهر الداعون إلى إحتذاء الأدب الأوربي، بينما دعا الأزهر عبر تاريخه إلى العودة للتراث العربي القديم.
أما الترجمة من الأدب الغربي إلى الأدب العربي فقد شارك فيها مجموعة من مثقفي الشام، إضافة إلى جهود بعض المستشرقين، هؤلاء الذين أسهموا في التنبيه إلى قيمة التراث العربي والعودة إلى بعثه وإحيائه. وكان إنشاء دور الكتب والمكتبات العامة عاملاً مهما أيضا في حتمية القراءة والتأليف، وإن لم يكن بالصورة المقنعة في بداية النهضة، كما أن جمع المخطوطات وتحقيقها وفهرستها وطبعها كان من العوامل المساعدة على تحقيق النهضة الأدبية بمستويات تختلف بين حقبة وأخرى، وارتبط ذلك بظهور الطباعة، والتي ارتهنت في وجودها بمصر بحملة نابليون، وأعقب ذلك ظهور الصحافة، وإن كانت البداية لا علاقة لها بالأدب، إذ بدأ الطبع بالجريدة الرسمية، وهي الوقائع إلى غير ذلك من الأسباب الداعمة للنهضة الحديثة.
وتأثر الأدب العربي بالأدب الأوربي ومراحل تطوره، وذلك من خلال التعرف على الفنون المستحدثة والاتجاهات النقدية، مثل الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والرمزية، وسائر الاتجاهات، التي تمذهب بها كثير من أدباء الشرق، وانعكست على إبداعهم ونقدهم.
ولاشك في أن هذا التأثر كان لصالح الأدب العربي، الذي جمع بين احتذاء التراث القديم والاستفادة من الاتجاهات الأدبية الحديثة في أوربا.
ونعود إلى مزيد من التفصيل لهذا الطرح البياني الراصد لأسباب النهضة ومظاهرها.
ثانياً: الاستشراق والمستشرقون
1- يتوقف معنى الاستشراق وتحقيقه على الدوافع الباعثة عليه، ولذلك لا يكاد يتفق اثنان أو أكثر من العلماء على وضع تصور عام لنشأة الاستشراق، والأهداف التي شغل بها المستشرقون، وربما أسهم في حدوث هذا الاختلاف تنوع نشاطات المستشرقين، واختلاف بعضهم عن بعض من دولة إلى أخرى، بل ربما يختلف المستشرقون في البلد الواحد، ولكلٍ وجهة هو موليها.
والاستشراق: "هو علم العالم الشرقي في معناه العام، وفي معناه الخاص: الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام".([1])
فالاستشراق مصطلح علمي وتاريخي يؤدي إلى الاتجاه نحو الشرق؛ لدراسة علومه ونشاطاته وديانته لأهداف مختلفة، ترجع إلى متطلبات السعي نحو الشرق.
والمستشرق هو عالم متخصص في دراسة أحوال الشرق ودوله، وتاريخ شعوبه، وسائر المعارف، والعقائد الدينية من الأديان واللغات، ونشاطات الفكر وما يتصل بهذه الأمم من آداب وعلوم وعادات وتقاليد في زمن ظهور هذا النشاط، والزمن المتقدم عليه.
ونؤكد ما سبق بيانه بخصوص نشأة الاستشراق، حيث اختلف الباحثون حول بدايته ونشأته، فمن العلماء من ذكر أن بدايته في القرن العاشر الميلادي، كما أن منهم من قال إن نشأته قد جاءت في أعقاب الحروب الصليبية (1097م -- 1295م) فقد كانت هذه الحروب برغم قوتها وعنفها وما أريق فيها من دماء، كانت مرحلة مشوبة بالتربص، ومعرفة كل فريق بتوجهات الآخر، ومنهم من ربط الاستشراق بالقرن الثالث عشر الميلادي، حيث وجد المسلمون العرب في الأندلس، وجمع الكثيرون بين دراسة الشرق والتفكير في الاستعمار الغربي للبلدان العربية، وذلك إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وأغلب الظن في هذا الموضوع أنه مرتبط بنهاية القرون الوسطى في أوربا، إذ بدأت الأنظار تتجه إلى عصر النهضة العلمية، وما يمكن أن يتحقق للدول الأوربية في طموحاتها ورغائبها في دول الشرق.
وقيل إن الاستشراق بدأ في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، فقد شرع الأوربيون في ترجمة العلوم العربية الفريدة؛ لكي تقدم منها نماذج مختارة ورائعة إلى شباب الغرب ومثقفيه، خاصة أن ذلك قد ارتبط بتوجهات النخبة المثقفة، وعنايتها آنذاك بتدريس اللغة العربية للناشئة، وذلك حتى يتمكنوا من التعامل مع الغرب، وإمكانية اعتناقهم للديانة النصرانية، فضلا عن العناية باللغة العربية، وارتبط ذلك بالتراث العربي وتحقيقه ونشره، ومن أمثلة ذلك طبقات الصحابة وطبقات الحفاظ ومعجم البلدان ومعجم الأدباء ومعجم ما استعجم وفتوح البلدان وغيرها، وتقوى عندي الأسباب الداعمة لبدء الاستشراق في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فقد خرج الأوربيون من عصور الضعف وسيطرة الكنيسة، تلك التي سميت بالقرون الوسطى، وشرع العلماء والأدباء في بداية عصر النهضة بالاهتمام بتراث الأمم الأخرى، وخاصة اللغة العربية وما ارتبط بها من تاريخ وحضارة وأدب.
فالاستشراق اتجاه إلى دراسة علوم الشرق كما سبق القول، ولكن التاريخ قد كشف عن نشاط بارز للاستشراق، من حيث عقد أول مؤتمر في هذا الصدد عام 1873م بباريس، ثم توالى عقد المؤتمرات فيما بعد، وأنشأ الأوربيون العديد من المؤسسات التعليمية في البلدان الإسلامية والعربية، لتوجيه التعليم في هذه البلاد، ولخدمة الأغراض الاستشراقية والاستعمارية فيها.
2 -- أهداف الاستشراق والدوافع إليه
لا شك في أن الاستشراق هو الاتجاه نحو الشرق لأهداف متعددة، وقد يكون أول هذه الأهداف هو الهدف الديني، فقد كانت الحروب الصليبية صراعا بين الشرق والغرب، لأسباب دينية في ظاهرها، وكذلك تم إنجاز العديد من المؤلفات عن رسول الإسلام وسائر المسلمين، وأكثر ما يوجه من نقد إلى المستشرقين بسبب ما كتبوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم والشعوب الإسلامية، ولاشك أيضا في أنهم لم يفهموا الإسلام بحق، وكانت نشاطاتهم مرتبطة بالعديد من الإساءات للرسول عليه الصلاة والسلام، وعندما تقوم التجربة الاستشراقية في الوقت الراهن فلا تُعجب الكثيرين لأنه يوضع في الاعتبار الإساءات للرسول والإسلام، بينما يحاولون إشعار الآخرين أنهم يكتبون الحقيقة؛ تقديرا للعلم وحرصا على أداء الواجب، أما أكثر علماء المسلمين فيرون أن هؤلاء المستشرقين يضعون السم في العسل، ويسيئون للرسول، ويقولون كلاما كثيرا في سائر الجوانب المختلفة للقضايا الإسلامية، وعليه فلا يثق الكثيرون في العالم الإسلامي بكتابات هؤلاء المستشرقين قديما وحديثا، ويرون أن هذا الفريق من الغربيين يسعون بالعلم والمعرفة إلى تمشيط حركة التنصير التي اشتهرت، وظهرت آثارها في كثير من دول العالم الإسلامي.
أما الهدف السياسي فكان القصد منه التعرف على أحوال تلك البلاد واحتلالها وسلب خيراتها، وجعلها سوقا لتصريف المنتجات الغربية، وتجلى ذلك في حملة نابليون على مصر والشام عام 1798م فقد جاءت إلى مصر، وكانت الدوافع واضحة في الاحتلال، وإشعار العرب بالذلة والمهانة، مع أن الحملة قد اصطحبت في معيتها بعض أسباب النهضة الأدبية والثقافية، إذ تمكن علماؤها من فك رموز الكتابة الهيروغليفية، كما استحضرت أدوات الطباعة وأشياء أخرى كان لها الدور البارز في النشاط الأدبي، والأهداف كثيرة ومتعددة، ومنها الهدف التجاري، الذي وضح منه أن التعرف إلى طبائع شعوب هذه المنطقة، وذلك حتى يصدروا إليهم ما يحتاجونه ويستوردون منهم المواد الخام المصنعة لأسباب الحياة.
إن أطماع دول الغرب في خيرات الشرق لا حدود لها ومتنوعة، وربما يتحقق للشرقيين بعض نواتج الحضارة الحديثة، ولكنها ليست خالصة أو صادقة، كما أن الدوافع أو الأهداف الدينية كانت خطرة، وفي منتهى القسوة، لأن سلب شعوب الشرق عقائدها وتاريخها وهويتها أمر صعب القبول، وربما يكون السبب العلمي أو الهدف الثقافي الذي بمقتضاه -- ولأسباب أخرى -- كانت هذه الأمور هي التي تحققت بها الفوائد الكثيرة، فالهدف الديني ضار بالمسلمين، ومسيئ إليهم، أما الهدف العلمي أو التنويري فقد تحققت به بعض أسباب النهضة الأدبية والثقافية، ولذلك فآثار المستشرقين تختلف من توجه إلى آخر، وهم على كل حال ليسوا سواء.
ثالثاً: نشاطات المستشرقين في المجال الأدبي والنقدي
تنوعت نشاطات المستشرقين بين مرحلة وأخرى، إذ أن هذه النشاطات مجتمعة تسهم في صنع الحضارة العربية الحديثة، وتختلف من حقبة زمنية إلى أخرى، ومن توجه استشراقي إلى آخر، فبعض المستشرقين منصفون عادلون يسعون إلى الحقيقة وعدم الطغيان عليها، وبعضهم متحاملون وشديدو الكراهية للإسلام، فلا يعترفون به ولا يراعون حقوقه.
ونورد أهم النشاطات التي أسهموا بها في النهضة الأدبية الحديثة:
1- جمع المخطوطات وتحقيقها وطبعها:
أسفر النشاط العلمي الكبير للعقل العربي في تدوين الكثير من المؤلفات، ودوائر المعارف والمعاجم، وسائر كتب اللغة العربية بجميع فنونها، والعلوم الدينية والتاريخية وغيرها مما يعد مفخرة رائعة ومتميزة اختصت بها الذاكرة العربية في عصور الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية وما تلاها.
وقد حرص القدماء على الاحتفاظ بنسخة أو أكثر من هذا التراث الضخم، وذلك عن طريق نسخ الكتب، والتي تخصص فيها كتاب مشهورون مما جعل الكتاب الواحد المخطوط له أكثر من نسخة، ربما تختلف الواحدة عن الأخرى، وانتشرت هذه المخطوطات في بلدان العالم العربي والإسلامي، كما وصلت إلى أبعد من ذلك شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، حتى لا تكاد توجد دولة عربية أو غير عربية إلا وكان لديها رصيد ضخم من المخطوطات في شتى جوانب العلم والثقافة والحضارة، وكان الغربيون بعد بداية عصر النهضة أكثر الأمم حرصا على جمع المخطوطات من كل مكان وجدت فيه، وبذلوا لهذا الغرض جهودا جبارة، واقترن ذلك بجهود المستشرقين في التعرف على التراث العربي بصرف النظر عن طبيعة هذه الدوافع، والأهداف المتمخضة عن ذلك، كما توهج هذا النشاط بعد حملة نابليون على مصر والشام.
وكان الحرص على جمع المخطوطات العربية وحفظها في المكتبات الأوربية هَمًّا مشتركا للكثير من الاوربيين بمستويات مختلفة أفرادا وهيئات ودولاً، وكان إتمام ذلك بطرق متعددة، سواء أكان بالشراء أم بغيره؛ استغلالاً للكثيرين الذين لم يقدروا قيمة هذه المخطوطات ولا نجذم بأن جميع المخطوطات قد حُوِّلت إلى أوربا، وإنما كان التراث بالضخامة في القدر والقيمة، بحيث يمكن أن يشبع نهم كثير من الدول على هذه المخطوطات العربية، وعليه فقد توزعت بين دول الشرق كالهند وباكستان ودول في أفريقيا كالنيجر ونيجيريا، كما نقلت كثير من المخطوطات إلى مكتبات الدولة العثمانية وباقي الدول الأوربية.
وقد كتب الدكتور محمود زقزوق عن عناية المستشرقين بجمع المخطوطات فذكر أن بعض الحكام في أوربا كانوا يفرضون على كل سفينة تجارية تتعامل مع الشرق أن تحضر معها بعض المخطوطات، وذكر أن بعض الجهات في أوربا أيضا كانت ترسل مبعوثيها لشراء المخطوطات من الشرق.([2])
وإذا كان التراث العربي قد توزع على مكتبات العديد من الدول وخاصة الأوربية فإن قدراً آخر قد أتلف أُو أُحرق عن عمد أو عن غير عمد؛ تعبيرا عن سوء عناية القدماء بهذا التراث الإسلامي والعربي، الذي لا يقدر بمال، ولكن للأمانة العلمية نقول من خلال مطالعتنا لكثير من المؤلفات إن الأوربيين على العموم، وخاصة المستشرقين قد بذلوا جهدا متميزا في جمع المخطوطات أولاً ثم في حفظها وفهرستها وتحقيقها وطبعها بعد ذلك، ثم أتاحتها للقراء أينما وجدوا، وقد أعيد الكثير من هذا التراث إلى ذويه بعد تحقيقه وطبعه، وذلك للاستفادة به مع إمكانية إعادة التحقيق والطبع، والفضل بكل تأكيد في إخراج هذا التراث لمن حافظوا عليه وأخرجوه مطبوعا للقراء، وقد سبق أن أعددت بحثاً بعنوان "جمع المخطوطات وتحقيقها، وآثار ذلك في إحياء التراث العربي"([3]) وتبين لي بعد مزيد من البحث أن الذي طُبع وحقق من سائر تراثنا العربي والإسلامي على اختلاف فنونه لا يزيد عن عشرة في المئة من مجموع التراث، الذي لا يزال معظمه مخطوطا وموزعا على كثير من بلدان العالم، فضلا عن القدر الذي جمع وحقق وطبع في أوربا، ولاشك في أن المستشرقين قد نهضوا بجهد كبير في جمع وتحقيق وطبع الكثير من أمهات الكتب، خاصة أن هذا النشاط قد انتقل إلى بعض البلدان العربية والإسلامية، التي نشطت مع غيرها في تحقيق وطبع الكتب، وإن كانت بوسائل وتقنية تقل عما كان متاحاً لدى المستشرقين، فقد كان النشاط الأسبق راجعا إليهم ونذكر أن من بين الكتب التي سبقوا إلى تحقيقها ونشرها: الشعر والشعراء، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والفهرست لابن النديم، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومعجم الأدباء ومعجم البلدان لياقوت الحموي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والوافي بالوفيات للصفدي. فهذه الكتب وغيرها من دواوين الشعراء على اختلاف عصورهم كانت زادا وتراثا قرأه شعراء العصر الحديث، وتأثروا به، ونسجوا على منواله احتذاء ومحاكاة، ولربما يكون محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم في مصر والبلاد العربية قد تأثروا بما طبع من دواوين شعراء الجاهلية، وسائر العصور التي كانت تعد هذا التراث نماذج رائعة لعصور النهضة الأدبية.
وتعد مكتبة برلين من أكثر المكتبات الأوربية في اقتنائها لألاف المخطوطات التي اعتنى بها المستشرقون عناية فائقة، وقدموا عنها عددا كبيرا من البحوث والدراسات المتميزة، كما أن المستشرق (آلوارد) قد قام بوضع فهرست للمخطوطات العربية في هذه المكتبة، وطُبع في عشرة مجلدات، وبلغ فيه الغاية فنا ودقة وشمولاً ([4]). ولا شك في أن المخطوطات العربية في الدول الأوربية بخاصة قد استفاد بها الأدباء العرب، سواء أجاءت إليهم في أوطانهم أم ذهبوا إليها؛ للتعلم منها والاستفادة بها.
**2 -- تأليف الكتب والمقالات والمعاجم: **
لم يقتصر المستشرقون على المخطوطات العربية التي جمعوها في مكتباتهم وحققوها وطبعوها، وإنما أضافوا إلى ذلك نشاطات أخرى، تمثلت في تأليف الكتب، وكتابة المقدمات ووضع المعاجم ونشر المقالات؛ كما أن هذه المجهودات لم تقتصر على اللغة والأدب، وإنما اشتملت سائر جوانب المعرفة، مثل كتب الثقافة والتاريخ والسياسة والحضارة وفهارس المكتبات، ولا نستطيع حصر هذه المؤلفات خاصة بعد أن نشطت حركة التأليف والطبع في القرن العشرين، وقد أوردت بعض الأخبار أن هذه المؤلفات قد بلغت ستين ألف كتاب، ولكن لا ندري فى أي زمن تحقق ذلك لكن القضية على إجمالها تؤكد أن مؤلفات أدباء ومثقفي الغرب قد حققت نتائج إيجابية لإثراء النهضة الأدبية الحديثة، واشتمل ذلك أيضا كثيرا من الإبداعات، التي لم توجه أساساً إلى الدول العربية، وإنما أعدت للعلوم والآداب والمعارف بشكل عام، خاصة في المجالات الإبداعية شعراً ونثراً.
وتجلت هذه الإبداعات الغربية في القصة والرواية بصفة خاصة فإن الأدباء العرب الذين كتبوا في هذا الفن قد استفادوا مما خطه العرب، ودبجته أقلام المستشرقين، إذ لم يقتصروا على التراث العربي القديم، وإنما تشبعوا أيضا بالمقاييس الفنية لكتابة القصة والرواية، فضلا عن تاريخ الأدب، وقدم المستشرقون كتبا متميزة في سائر المعارف مثل كتاب "تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان" (1868م -- 1956م) ودائرة المعارف الإسلامية، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، الذي أعده مجموعة من المستشرقين عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي، وموطأ مالك، ومسند أحمد بن حنبل، وقد طبع في سبعة مجلدات من القطع الكبير.
ونذكر بكل إعجاب كتاب تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، وبقدر إخلاص هذا الرجل للدراسات الأدبية وتاريخ الأدب، فإنه قد اعتبر متشددا أو متحاملا في مجال الدراسات الإسلامية وأُعد هذا الكتاب -- ابتداء -- في خمسة مجلدات ضخمة، وتم تقسيمها إلى ثمانية عشر جزءا، ترجم منها ستة أجزاء بإشراف وتمويل جامعة الدول العربية، وكتبه باللغة الألمانية قبل الشروع في ترجمة بعض أجزائه، وكان تعريب هذا الكتاب خطوة مهمة ومفيدة لسائر قراء اللغة العربية ومثقفيها، وكان هذا المستشرق الألماني يضيف إلى أصول كتابه الأولى إضافات ذات فوائد جمة، إذ طبع ذلك في ملحقين كبيرين أضيفا إلى أصل الكتاب، كما أعاد الجزأين الأولين في مرحلة تالية، ولم يتوقف عن الإضافة المستمرة لهذا الكتاب إلا بالموت، كما أنه استجاب إلى مطلب جامعة الدول العربية فأذن لها بطبع الكتاب عام 1948م وطبع اعتمادا على ما وضعه بروكلمان وحده؛ حتى يكون خالصا له.
وذكر مترجم الكتاب في مقدمة الجزء الأول أن بروكلمان قد أقر بالسبق لمستشرق نمساوي في تأليف الكتب فنقل أي المترجم -- على لسان بروكلمان -- "أن أول من قام بمحاولة لتقديم تاريخ الأدب العربي في عرض كامل هو المستشرق النمساوي يوسف هامربورجستال، الذي صنف كتابا في هذا الفن، يشتمل على سبعة أجزاء ونشره في فيينا سنة 1850م على أن هذا المستشرق لم يكن على علم كاف بالعربية، كما أن أهم مصادر تاريخ الأدب لم تكن قد عرفت بعد في زمانه".([5])
وبعد صدور كتاب بروكلمان أخذت كتب الأدب العربي شعرا ونثرا، وكتب النقد والقصة والرواية والمسرحية تصدر في الشرق والغرب بمستويات مختلفة، ومن دول متعددة مما اسهم في نهضة الأدب العربي الحديث.
3 -- التدريس الجامعي:
كانت أعمال المستشرقين وخططهم ومناهجهم في إيصال الفكر الاستشراقي إلى الدول العربية والإسلامية كان كل ذلك محكوما بفكر تقدمي شامل، فليست القضية على إجمالها متروكة للارتجال، وإنما كانت ممنهجة وذات نظرة مستقبلية شاملة، فالتأثر العربي بالفكر الاستشراقي قد يأتي من خلال الاتصال المباشر وعقد المحاضرات والندوات، وبذلك يتحقق التأثير المستهدف، فإن ما يؤخذ من كتاب أو مجلة ليس كالذي يؤخذ من التلقي بالاستماع إلى المحاضر، ومناقشته وتفهم أبعاد الموضوع، ولذا أعد الغربيون معاهد خاصة للاستشراق في الدول الأوربية، وذلك لخلق كوادر مدربة على أعمال الاستشراق، ووسائل التاثير في الآخر من خلال عقد الدورات التدريبية في بعض الدول، وذلك حتى يتسنى لهؤلاء الغربيين الالتقاء بالمثقفين والأدباء العرب، والتاثير فيهم ويكون ذلك منصبا على دراسة الخطط والمناهج والاستفادة بالتجارب بهدف التأثير في الآخر، ومن هنا كانت أهمية هذه المعاهد الخاصة بالاستشراق؛ حتى تتحقق الأهداف المنوطة بها كما أن المحاضرات التي تعقد في المراكز البحثية الملحقة بالجامعات الغربية تهدف إلى تيسير قنوات التواصل، وذلك من خلال اللغة المشتركة، وهي لغة التدريس ولغة الأدب والثقافة، وكان الأساتذة الغربيون يأتون إلى البلاد العربية خاصة في مصر والشام، ويقدمون المحاضرات التي تبرز حتمية العناية بالفنون الأدبية وتطويرها، والاستفادة من المسافات الطويلة التي قطعها الغربيون لتحقيق النهضة الأدبية، ولازال التلاقي بين الآداب المختلفة من حيث اللغة محققا لكثير من النتائج في العالم العربي والإسلامي.
وقد تحدث الدكتور/ محمود حمدي زقزوق عن هذا الأمر فقال: "يكاد يكون هناك في كل جامعة أوربية أو أمريكية معهد خاص للدراسات الإسلامية والعربية، بل يوجد في بعض الجامعات أكثر من معهد للاستشراق مثل جامعة ميونيخ لتاريخ وحضارة الشرق الأدنى، ويرأس كل معهد أستاذ ويعاونه بعض المحاضرين والمساعدين، وتقوم هذه المعاهد بمهمة التدريس الجامعي وتعليم العربية وتخريج الدارسين في أقسام الماجستير والدكتوراهَ ممن سيواصلون أعمالهم في المجال الاستشراقي الأكاديمي، أو غيره من مجالات أخرى".([6])
والأهم في هذه المعاهد أنها لا تقتصر في التدريس على تلاميذ الاستشراق، الذين سيتولون المهام المستقبلية، وإنما تفتح هذه المعاهد أبوابها لأعداد كثيرة من العرب والمسلمين، الذين اتسعت لديهم المعرفة اللغوية للغات الأخرى غير العربية، إذ يستطيعون بها أن يسهموا بما يستمعون إليه في نهضة آدابهم العربية، وقد شهدتْ المراكز العلمية والتعليمية في بعض البلاد العربية حضورا بارزا لعدد من أدباء الغرب المستشرقين، كانوا يأتون إلى البلاد العربية فيحاضرون في جامعاتها، ويقدمون ألواناً متجددة من الأدب والفن مما يعين المثقفين العرب على التاثر بهؤلاء الأوربيين، في إثراء النشاطات الأدبية في العصر الحديث.
4- الترجمة:
اعتنى الأوربيون بالتراث العربي عناية كبيرة، وانتقوا منه كثيرا من كتب النقد والإبداع فترجموها إلى العديد من اللغات الأوربية، إذ من خلال هذه المترجمات استطاعوا أن يتعرفوا على أسرار التراث العربي والإسلامي، حيث تسهم الترجمة من لغة إلى أخرى فى تفهم الجوانب التي تستحق الدراسة الحديثة من هذا التراث، ولذا أفادت هذه الترجمات للآداب والفنون أفادت القارئ والمثقف الأوربي، وكان عباس العقاد -- رحمه الله -- قد أعد كتابا عن أثر العرب في الحضارة الأوربية، كما أن هذه المترجمات قد أسهمت في إمداد المستشرقين بما يجب عليهم أن يبحثوا عنه، وذلك لمزيد من التعرف عن قرب بخصوص الإبداع والتميز في التراث العربي، وقد ترجمت كتب كثيرة في هذا الشأن عبر القرون السابقة، ونذكر منها تاريخ الطبري ومروج الذهب للمسعودي، وتاريخ المماليك للمقريزي ودواوين العديد من الشعراء، ومئات الكتب من الأدب والتاريخ والعلوم الإسلامية المتعددة. ([7])
وعلى جانب آخر قد تم ترجمة الكثير من المؤلفات الأدبية، حيثُ نقلت إلى اللغة العربية في مجالات النقد الأدبي والشعر والقصة والرواية والمسرح وغيرها، كما يعود تاريخ الترجمة إلى زمن الإغريق فيما يخص فن الشعر، وفن النثر وسائر الفنون الأدبية المنبثقة منهما، وتم التاثر بذلك من خلال قراءة المثقفين العرب لهذا الإبداع، ونذكر في هذا الصدد أن كتابا في الإبداع العالمي مثل (كليلة ودمنة) لبيدبا الفيلسوف قد ترجم إلى اللغة العربية، ثم ترجم من العربية إلى الفرنسية وأعيد بالترجمة أيضا من الفرنسية إلى اللغة العربية، وغير ذلك كثير مما نشر في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، وانعكست هذه الترجمات على الأديب العربي والكاتب المسلم، فجمع في ذاكرته نماذج عديدة من الإبداع الأوربي واستطاع أن يتمثله في كتاباته العربية، وقطع شوطا كبيرا في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرحية وغيرها، وأصبح الكاتب على اختلاف توجهاته يمتاح من تراثه العربي ومن النماذج الغربية المعاصرة، وانعكس ذلك على الأدب العربي إذ لم تنقطع المترجمات منذ قرون، سواء أكان ذلك عن طريق الاستشراق أم كان نواتج للترجمة بين الآداب المختلفة.
5 -- عقد الندوات، وإقامة المؤتمرات، ونشر المجلات:
لم يكتف المستشرقون بالكتب المؤلفة التي تُنقل من الغرب إلى الشرق، وإنما اتجهت عناياتهم إلى التلاقي في الندوات والمؤتمرات التي كانت تعقد في الدول الأوربية، حيث يشارك فيها أعداد كثيرة من العلماء والأدباء، بحيث يكون الدور فيها مزدوجا وذلك بتعرف الأوربيين على التراث العربي والمؤلفات المطبوعة إبداعا ونقداً، أو تعقد هذه الفعاليات في البلاد العربية والإسلامية، وبحيث يكون التعرف فيها على الفكر الأوربي، هذا الذي وفد إلى الشرق، وقَدِم إلى العرب والمسلمين فينقل إليهم ويقرأونه ويستفيدون به، وذلك طوال عشرات السنين.
وقد عقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين في باريس سنة 1873م، كما عقدت مؤتمرات أخرى في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأيرلندا خلال القرن التاسع عشر الميلادي([8])، وكان يحضر هذه المؤتمرات مئات من المستشرقين، ويلتقون على قضايا مشتركة لا تنفصل عن هموم الاستشراق، وتعود ثمارها على أهل الشرق في اللغة والأدب وسائر فنون النثر العربي، كما اعتنى المستشرقون بالعديد من المجلات، التي كانت تزيد على ثلاثمائة مجلة في سائر الدول الأوربية، وتنعكس آثارها على الأدب العربي والثقافة الإسلامية، مثل مجلة العالم الإسلامي، التي كانت تصدر في بريطانيا، ومجلة ينابيع الشرق التي كانت تصدر في فيينا، ومجلة الإسلام التي كانت تصدر في باريس، وأكثر هذه المجلات كان الدين الإسلامي هو محل العناية والإهتمام بها، كما كانت تعقد المؤتمرات الخاصة بالآداب المقارنة والأصالة والحداثة وغيرها من الشرق والغرب، ولاشك في أن هذه المؤتمرات والمجلات وغيرها من سبل التلاقي بين المستشرقين والعرب كانت ذات تأثير بالغ في تعرُّف الشرقيين على نواحي الإبداع الغربي.
رابعاً: ختام البحث
1- بقدر ما كان الإستشراق ذا آثار إيجابية فعالة ومؤثرة في مسيرة الأدب العربي الحديث لاعتبارات متعددة سبق الحديث عنها بمستويات تتواءم مع طبيعة هذا البحث، إلا أن كثيرا من المستشرقين لم يكونوا عادلين منصفين في الدراسات الإسلامية المتعلقة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي بحث الكثير من قضايا القرآن الكريم واللغة العربية، ومن المستشرقين الذين تحدثوا عن القرآن الكريم بطريقة لا تتناسب مع هذا الكتاب المعجز، الذي تحدى الرسول به قومه فعجزوا عن الإتيان بمثله أو ببعضه، ومن هؤلاء جورج سيل، وريتشارد بل ودوزي، ورينان الفرنسي فهؤلاء ومثلهم كثير قد أساءوا إلى القرآن الكريم وتحدثوا عنه بكلام مسيئ أتعفف عن أثباته في هذه الصحائف.
2- دعا بعض المستشرقين ومنهم لويس ما سينيون إلى كتابة اللغة العربية باللهجة العامية، كما دعا إلى استعمال الحروف اللاتينية، وإلى غير ذلك من الدعوات المريبة.
وأذكر أن الدعوة إلى التدريس باللهجة العامية قد تجددت في العصر الحديث عند إنشاء جامعة القاهرة، والتي كانت معروفة في بدايتها بالجامعة الأهلية، إذ دعا بعض الإنجليز الذين تواجدوا في مصر آنذاك إلى استعمال اللهجة العامية بدلا من اللغة الفصحى عند اختيار لغة التدريس في هذه الجامعة، لكن هذه الدعوات مع خطورتها لم تصمد في مواجهة اللغة العربية الفصحى، وهي لغة القرآن الكريم والأدب العربي.
3- أوازن الشعر: كان للاستشراق دور بارز في الدعوة إلى الخروج على بعض الثوابت في التراث العربي، والمتمثل في النظام الشعري إذ يقضي هذا النظام بالخضوع للوزن والقافية، أما الخروج على هذه الأطر فكان مدعوما بالدعوات الاستشراقية إلى الاهتمام بالشعر الحر، أي المتحلل من القافية أو الدعوة إلى ما يسمى قصيدة النثر، وقد قدم المستشرقون هذه الدعوات صريحة في بحوث وكتب مستقلة عن هذه القضية، فهذا الإطار رغم أنه صار الآن موجودا، ولا يمكن إنكاره إلا أن بعضا من جذور هذا النظام يمتد في أرض ذات صبغة استشراقية، وسار في هذا المساق شعراء عرب أغرموا بالتجديد والتقليد، والأخذ عن الغرب في هذا الإتجاه؛ حتى لو كان ناسفا للكثير من القواعد الراسخة.
4- ارتبطت الدعوة إلى احتذاء الغرب في الثقافة والتعليم، بأقلام صهيونية عالمية، لا يمثل لها التاريخ الإسلامي ولا اللغة العربية أية قيمة أو تقدير، وتتجلى تلك الخطوات في دعوات مباشرة وغير مباشرة إلى إهدار القيم وتحريف القول، وسائر المعاني الراسخة في جوانب الفكر الإسلامي، ويلزم لمواجهة هذه الحملات التغريبية الانطلاق إلى دعم الفكر الإسلامي بتجديد الرؤية في المجالات البحثية به وإعادة عرضه وتقديمه بحيث لا يبقى ما به من شبهات الجمود والتشدد، ومواجهة دعوات التغريب، للتعرف على سبل مواجهتها وبيان موقف الإسلام منها، بما يمثل تجديد الاستمرار لسبل الحوار مع الآخر.
5- لا يتساوى المستشرقون في مواقفهم من ديانات الشرق وأدبياته، فالكثير منهم متحامل وغير منصف ومجحف في آرائه خاصة في الدراسات الإسلامية، أما الفريق الثاني فهم فئة المنصفين الذين ينشدون الحقيقة، ويتحمسون لها ويدافعون عنها، وتتجلى هذه النصفة في الدراسات اللغوية والأدبية والإنسانية.
وكان المستشرق كارلونللينو الإيطالي أستاذا في جامعة القاهرة وأستاذا لمادة الفلك، وقد حظى بتقدير كثير من المصريين، ومنهم الدكتور/ طه حسين بينما ذكر آخرون أن كتابته في الجانب الإسلامي بها بعض التجاوزات، التي تكاد تعصف بعدالة الرجل، وحماسته للغة العربية، التي شارك بها في عضوية المجمع اللغوي، فضلا عن مؤلفاته المفيدة، أما المستشرق عبدالكريم جرمانيوس الذي ولد في بودابست بالمجر، فإن اسمه يدل على اعتناقه للإسلام، وكان هذا المستشرق محل تقدير لدراساته الكثيرة والمتنوعة في سائر المعارف، وخاصة في الأدب واللغة والتاريخ، فضلا عن عضويته في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وبغداد، بعد تعلمه للغة العربية واللغة التركية، فهؤلاء المستشرقون بقدر عنايتهم باللغة، وإفادتهم للأدب العربي الحديث فإن كتاباتهم بصورة عامة تُؤخذ في الدراسات الإسلامية بكل يقظة وانتباه، فمنهم من يدس السم في العسل ، أو يوهم بأنه يبحث عن الحقيقة، ولا يعنيه إلا الهمز واللمز للدين الإسلامي.
خامساً: أهم المصادر والمراجع
1- الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري -- د. محمود حمدي زقزوق -- طبع كتاب الأمة في قطر عام 1404هـ - 1983م.
2- الاستشراق والمستشرقون، مالهم وما عليهم -- د. مصطفى السباعي، طبع المكتب الإسلامي -- بيروت عام 1405هـ - 1985م.
3- بحوث في الاستشراق واللغة -- د. إسماعيل أحمد عمايرة -- طبع دار وائل للنشر -- عمان -- الأردن عام 2003م (الطبعة الثانية).
4- تاريخ الأدب العربي -- كارل بروكلمان -- تعريب د. عبد الحليم النجار -- الجزء الأول -- طبع دار المعارف بمصر عام 1983م.
5- تاريخ التراث العربي -- فؤاد سزكين -- طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -- المجلد الثاني -- (خمسة أجزاء) تعريب محمود فهمي حجازي 1403هـ - 1983م.
6- جهود المستشرقين في التراث العربي -- بين التحقيق والترجمة -- محمد عوني عبد الرؤوف -- إعداد وتقديم د. إيمان السعيد -- طبع المجلس الأعلى للثقافة عام 2004م.
7- شبهات التغريب في الغزو الفكري -- أنور الجندي -- طبع المكتب الإسلامي -- بيروت 1403هـ - 1983م.
8- شخصيات وقضايا في العلم والتعلم والتربية -- د. السيد محمد الديب -- طبع عام 1435هـ - 2014م.
9- صور استشراقية -- د. عبد الحليم شلبي -- طبع دار الشروق 1406هـ - 1986م.
10- المستشرقون -- نجيب العقيقي -- طبع دار المعارف بمصر عام 2006م. ثلاثة أجزاء.
11- مستشرقون -- نذير حمدان -- طبع مكتبة الصديق بالطائف عام 1408هـ - 1988م.
12- مناهج البحث في الأدب واللغة والتربية -- د. السيد محمد الديب، نشر مكتبة الآداب -- ميدان الأوبرا -- القاهرة طبع عام 2000م.
13- موقع ويكيبيديا.
دكتور/ السيد محمد الديب
الأستاذ بكلية اللغة العربية -جامعة الأزهر -- فرع الزقازيق
عضو اللجان العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئة التدريس
sayed.addeeb@hotmail.com
- بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الرابع في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالزقازيق وموضوعه "المستشرقون ... والتراث العربي الإسلامي" في المدة من 7-9 أبريل عام 2015م (المحور الأول) وعنوانه "أثر المستشرقين في ميدان الدراسات الأدبية والنقدية".
([1]) مناهج البحث في الأدب واللغة والتربية (من تأليفنا) ص5.
([2]) راجع كتاب الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارين ص61، طبع الأمة في قطر عام 1404هـ/ 1983م.
([3]) تم تقديم هذا البحث في مؤتمر بجامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية في جاكرتا بأندونيسيا من 9-12 يوليو عام 2012م تحت عنوان: "مستقبل اللغة العربية في عصر العولمة بين الأمل واليأس".
([4]) انظر الاستشراق للدكتور/ محمود زقزوق ص61.
([5]) تاريخ الأدب العربي لكارل بوركلمان ترجمة د/ عبد الحليم النجار -- طبع دار المعارف بمصر 1983 الجزء الأول ص
([6]) الاستشراق ص59.
([7]) راجع السابق ص64.
([8]) موقع ويكبيديا الإلكتروني