تتجلى هدايات الله تعالى في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بكافة صورها، والتي ملأت الكون ضياء ونوراً، بعد أن تكونت مفرداتها في مكنون نفسه، وأشرقت بصيرته فنطق بالكلمة الفصيحة، والجملة البليغة، التي طابق بها أحوال الناس الذين اختلفت أصقاعهم، وتعددت ألسنتهم، فجاء البوح والإفضاء طبعاً أصيلاً، ونبعاً صافياً، فكان صلى الله عليه وسلم كما وصف نفسه في خطاب القرآن الكريم  وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (1).

وقضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوبه في الخطابة، وطريقته في العرض والبيان على ألوان الخطابة الجاهلية، التي لا تتفق مع منهج الإسلام ورسالته السمحاء، ولكنه صلى الله عليه وسلم أقرّ ببعض النماذج القليلة منها، ومن ذلك ما جاء بحق قسَّ بن ساعدة الأيادي، الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال عنه: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: "أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت"(2)، وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية ثانية أوردها أبو الفرج الأصبهاني نقلاً عن الرواة، وصولاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما، والرواية مرتبطة بوفد إياد، عندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عن (قسّ) وعرف أنه مات، وقال إنه استمع إليه في سوق عكاظ، وكان قد نسى الخطبة فذكرها له أحد الحضور، وعقَّب الرسول بعد سماعه إليها قائلاً: "يرحم الله قسّاً، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحدة"(3) الأمة الرجل المفرد بدين كقوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (4).

ودخلت الخطابة النبوية ساحة الأدب العربي باعتبار أنها نماذج مختارة؛ للتدليل بها على أكثر الموضوعات البلاغية، ومفرداتها المتعددة، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله تعالى صاغه كياناً بشرياً في غاية الإيجاز والإعجاز، ومن ابتداءات خُطَبه قوله عليه الصلاة والسلام: "الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونؤمن به نتوكل عليه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.."(5) وجاء ذلك ارتباطاً في غالب الأحوال بصلاة الجمعة، التي تؤدى في جمع من الناس، وتيسر ذلك لأول مرة في نهاية طريق الهجرة إلى المدينة المنورة(6).

خطابته صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة بعد البعثة النبوية

بقى الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغاً لرسالته سِرّاً وفي نطاق ضيق إلى أن نزل عليه قول الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فكان ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين، صعد على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فِهر، يا بني عَديّ لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جرينا عليك إلا صدقاً، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .. قال أبو لهب: تباً لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (8).

ولم يكن إنذار عشيرته وسائر قريش محققاً لأهداف الدعوة بصورة إيجابية، فانطلق الهتاف ببعض مكونات الرسالة في أسواق العرب (عكاظ ومَجَنَّة وذي المجاز) قبل انصرافهم إلى الحج، ويتجه إليهم في منازلهم قائلاً لهم: "أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العَجَم، وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة"(9).

وكانت رسائله في الدعوة إما حديثاً مباشراً أو خطبة قصيرة لا يطيل فيها، وليست بها مفتتحات الخطبة ونهايتها، وكان يسأل فيجيب أو يُعارض من آخرين، وبعضهم أقاربه فيلوذ بالصمت والصبر الجميل، وفي مقدمة هؤلاء: أبو لهب وأبو جهل، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مُكرِها لأحد على شيئ.

ولم تَفْتر عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء رسالته، بكل ما أتيح له من سبل للاتصال، فكان التوجيه بالخطبة التي أعدّ نفسه لها، واعتبر سائر القرشيين قوماً له، لا تفريق في الإبلاغ بين قريب وغريب، وجمعهم بتأييد من الله تعالى، وقدم لهم أول خطبة له بمكة المكرمة؛ لدعوتهم إلى الإيمان، قال: " إنّ الرائد(10) لا يكذبُ أهله، والله لو كَذَبْتُ الناس جميعاً ما كَذَبتم، ولو غررتُ الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسولُ إليكم الله خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتحاسُبنَّ بما تعملون، ولُتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء وسوءا، وإنها لجنة أبداً. أو لنار أبدا.." (فتكلم الناس كلاماً لينا غير عمه أبي لهب فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن أسلمتموه إذا قتلتم، فقال أبو طالب: والله لمنعنه ما بقينا .. ثم انصرف الجميع)(11).

وقد تجلت صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة، إذ بدأت بقول ثابت مؤكد، كمفتتح عاطفي لعلاقة الرسول بقومه، قال: "إن الرائد لا يكذب أهله"، ثم جاء البيان شمولياً لكافة الأطياف، ومتنوعاً في العرض، بدءاً بزرع ثقتهم في دعوة الرسول، وأكد الخطاب نهايتهم بالموت وبعثهم كما اليقظة، للحساب على أعمالهم، وتلقي الجزاء بالجنة، والعقاب بالنار، قال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (12).

والجمل مؤكدة بأكثر من مؤكِّد، ومرتبطة ببيان نتائج الأعمال وعواقب الإهمال، ودعمها بالتشبيه البلاغي، والمطابقة اللفظية، دون تكلف في السجع، أو توعر في اللفظ، أو استعلاء في بيان الشأن، ودعم تقربهم منه، وعدم ابتعادهم عنه، وحاصل النتيجة من خلال تعقيب عمه أبي لهب بالرفض، وأبي طالب بالتأييد والدعم.

فهذه الخطبة مع قصرها قطعة أدبية فريدة ، ورسالة إبلاغية موجزة، وباكورة دعوية ملائمة، مع تساوي فقراتها، وسهولة الطبع فيها، ولين الخطاب في مجموعها، ولذا بقيت راسخة في الأحاديث النبوية، ومنتخبات السيرة والأدب والبلاغة.

أما القادمون من يثرب فقد التقى الرسول صلى الله عليه وسلم بهم، وعرض عليهم رسالته في السنوات الأخيرة قبل الهجرة، وكان البدء مع أفراد من قبيلة الأوس، ثم كان العام التالي فالتقى بجماعة من حجاج الخزرج، وعرَّفهم بدعوته دون أن يَسْلَم من تكذيب المكيين، وتسفيه الضالين. "وقد ظلَّ طوال مكثه بمكة يتلو على قريش ومن يلقاه في الأسواق كتاب الله حيناً، وحيناً آخر كان يخطب في نفس معاني القرآن المكية، متحدثاً عن رسالته، وداعياً إلى وحدانية الله، مبيناً أنه –تعالى- يهيمن على الناس في أعمالهم، وأنه سيبعثهم يوم القيامة؛ ليجزي بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً"(13)، وكان يعارض من المناوئين للدعوة خلال خطبته فيرد عليهم بالقول الحسن، والرأي السديد، دون تحقيق للنتائج المبتغاة، ولكنها التبعة ومسئولية التبليغ، ووجوب الإنذار بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (14).

وأما الخطبة الأخيرة بمكة –في حدود ما وصلنا من خطب الرسول بكتب الأحاديث وسائر أمهات كتب التراث- فقد جاءت في هيئة إجابة كاشفة لأحد الصحابة، وذلك في العقبة عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعاهد الأنصار في السنة الثانية عشرة من البعثة، وربما قبل الهجرة إلى المدينة بأشهر قليلة.

روى ابن مسعود قال: "وَعَدَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أصل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلاً قال عقبة إني أصغرهم سناً فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوجزوا في الخطبة. فإني أخاف عليكم كفار قريش، فقلنا يا رسول الله: سلنا لربك وسلنا لنفسك وسلنا لأصحابك، وأخبِرنا ما لنا من الثواب على الله تبارك وتعالى وعليك. قال: "أما الذي لنفسي أن تطيعوني أهدكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم، وأن تمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك فلكم على الله الجنة وعليّ، قال(15): فمددنا أيدينا فبايعناه"(16).

من خصائص خطابة الرسول في مكة المكرمة

كانت خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة مع قلتها خلال البعثة موجزة وقصيرة، وليست بمواصفات الخطبة المتعارف عليها منذ أن وضع قس بن ساعدة بعض الثوابت والمرعيات لها، وكما في خطب الجمعة والمناسبات فيما بعد.

وكانت خطابته صلى الله عليه وسلم مواجهة مباشرة من خلال اللقاء مع أعداد قليلة في قرب مكاني، أو من على ربوة عالية، ويمكن أن يُواجه في خطبته بالاعتراض والرفض، أو بالتكذيب والسخرية، أو يكون الخطاب إجابة عن طلب أو سؤال فيكون الرد بخطبة موجزة تعرض للموضوع بلا مبالغة أو تهويل أو تكلف في القول، أو تزيين للحاضر، أو تقليل من الشأن الغيبي، الذي لا يطلع عليه أحد من الخلق، وبدأ بعض القرشيين يتفهمون الموقف، الذي لم يتغير تغيراً جوهرياً فكان الشروع في الخطاب بأسلوب جديد وفق المتغيرات الحادثة، والمترتبة على الهجرة إلى المدينة بما فيها من قوة في المواجهة، ورغبة في التصدي لضلالات الإشراك بالله تعالى، ودعم الكيانات المسلمة، التي صارت مؤهلة للاستماع إلى خطابةٍ متغيرة، وفق الأحداث، ولذا يبقى الحديث عن خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم متواصلاً...

دكتور/السيد محمد الديب

Sayed.Addeeb@hotmail.com

(1) سورة (ص)86.
(2) البيان والتبيين للجاحظ، ج1، ص308، طبع الخانجي.
(3) الأغاني ج15، ص247، نسخة مصورة عن دار الكتب.
(4) النحل 120.
(5) جاء ذلك في بداية خطبته صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع كما في البيان والتبيين للجاحظ، ج2، ص31، وغيره، مع اختلاف بسيط بين الروايات، فضلاً عن وجود صياغات أخرى للابتداءات.
(6) النص بالسيرة النبوية لابن هشام، م1، ج2، ص317.
(7) الشعراء 214.
(8) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي (إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام) لمحمد خليل الخطيب، ص2.
(9) تهذيب الطبقات الكبرى ص101.
(10) الرائد: المرسل لاختيار مكان النزول.
(11) إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام، ص3، والخطبة بجمهرة خطب العرب، لأحمد زكي صفوت.
(12) الزلزلة 7، 8.
(13) تاريخ الأدب العربي، العصر الإسلامي، للدكتور شوقي ضيف، ص115، (طبع دار المعارف).
(14) النحل 125.
(15 ) أي الراوي.
(16) رواه الطبراني (471)، وأخرجه أحمد (17208)، وأورده كتاب "إتحاف الأنام" ص3، ص4.