جاء الإسلام لينتقل بالبشرية من حياة الجهل والفساد إلى أنوار الهداية والطهارة والنقاء، واشتمل هذا الدين القويم- بكمال منهجه وتمام دعوته- الإنسان، حيث كرمه الله تعالى، وأعلى شأنه بالعقل والفكر والتأمل، وامتد هذا المنهج ليعم جميع الكائنات الحية، التي سخرها سبحانه وتعالى لإعاشته وخدمته، بكافة الوسائل الممنوحة له، ومن خلال هذه المنظومة المتشابكة يتحرك الإنسان على الأرض اليابسة، ويحتسى الذلال، وينعم بالهواء والغذاء وسائر سبل الحياة.
1- البيئة: هي جميع ما يحيط بالإنسان من مستحدثات بشرية، ومكونات طبيعية كالمنزل والمجتمع وسطح الأرض والماء والهواء، وكل الكائنات التي تقبل التغيير والتحول من الصلاح إلى الفساد، ومن الإفادة إلى الإضرار.
وتسهم البيئة في سلامة الإنسان، وفي إلحاق المرض به أيضا، مما يحتم وجوب المحافظة على المعطيات الإلهية والمستحدثات البشرية، التي يتعامل معها بما يكفل الحماية التامة لما يطرأ عليها من تلف وإتلاف.
2- الحفاظ على البيئة مسئولية عامة، ينهض بها الفرد والجماعة، كما تتحمل الدولة القدر الأكبر في حماية كل المكونات، التي تتشكل منها، ذلك أن المجتمع الراقي هو الذي يراعى شئون بيئته، فيحافظ عليها، ويصونها من التلوث والآفات.
ولا تنعكس مخاطر البيئة على الإنسان وحده، وإنما تمتد لتشمل سائر الكائنات الحية، التي ينقرض الكثير منها بسبب تدخل الإنسان بأنواع من الإفساد لكل ما في البر والبحر والهواء، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).([1])
فالفساد الذي تحدثت الآية عن ظهوره ناتج عن تدخل الإنسان بما يخالف مقدرات الله تعالى وناموس الطبيعة، ، فالتدخل يكون بالعصيان، وتجاهل حقوق الخالق في عطاءاته للبشر؛ اشعارا بأهمية الإصلاح، والرجوع عن الإفساد بكافة أشكاله، قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"([2])، بمعنى منع إضرار المؤمن للآخرين، ومنع إيذائهم له على أية صورة، وما أخطر أن يمتد قصور الفهم من المسلم إلى المساجد فيحدث القذر والتلوث بها بما يحتم التدخل لمنع الضرر بالصورة المناسبة لكل موقف.
وقد روي أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجلّ، والصلاة وقراءة القرآن، قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشَنَّه عليه".([3])
وتمتد يد الفساد من الإنسان إلى وسائل حياته، قال تعالى عن بعض صنائع المنافق: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)([4]) والحرث: الزرع، وكسب المال وجمعه، والنسل: الأولاد، والفساد هو الخراب "والآية بعمومها تضم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين"([5])، فالإسلام دين يراعي شؤون الفرد والجماعة، ويتحمل كل واحد المسئولية في المعطيات الإلهية لسائر الخلق، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار".([6])
والحفاظ على البيئة يشمل أبرز مكوناتها وهي:
أولاً: الأرض: لقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن ظهور الفساد في الأرض بدوافع من الإنسان، لتفعيل طمعه ورغائبه في الحياة فيُحدث أضراراً بكل ما على الأرض، وتوجَّه النهي عن الإفساد إلى المؤمنين، الذين ينعمون بمخلوقات الله تعالى، ويتجهون إليه بالدعاء والتضرع، فقال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا)([7])، أما الإصلاح في الأرض فيشمل جميع ما عليها كالتربة الزراعية، التي تخرج احتياجات الإنسان من الغذاء، كما ينبغي الحفاظ على الأراضي الخالية، وبخاصة ما كان منها قريبا من إقامة الإنسان فلا تلقي فيها المهملات وسائر المخلفات، التي تُحدث تلوثا تمتد مضاره إلى الكائنات الحية، فيجب إحياء هذه الأراضي بالتشجير بما يقي الإنسان من مخاطر الأمراض، أما الطريق الذي يسلكه الناس للسعي على أرزاقهم وقضاء مصالحهم فيجب الحفاظ عليه، وحمايته مما يحدث فيه أو يقع عليه من تعديات نهي الإسلام عنها، خاصة الطرق الفرعية، التي لا يبالي أكثر الناس بما يقع فيها: كإلقاء القاذورات، وانتشار الحيوانات الضالة، والدواب النافقة وغير ذلك من الملوثات، التي تنتشر بسائر الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا"([8])، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاثة([9]): البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل"([10])، وجاء في حديث رواه الشيخان "وتميط الأذى عن الطريق صدقة"، وتشمل الأرض سائر الكتلة اليابسة سواء أكانت أرضا مزروعة أم صحراء غير مأهولة، أم طريقا يسلكه الناس، أم منشأة يستفيدون بها أو يقيمون فيها، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "لا تعقروا نخلا، ولاتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بعيرا إلا لمأكله".
وقد اتسعت الأضرار والمخاطر من المنشآت المستحدثة والمصانع، وحرق مخلفات الأراضي الزراعية، وغير ذلك مما يتأذى الناس به في القرى والمدن.
ثانياً: يعد الماء من أجل نعم الله تعالى سواء أكان عذبا فراتا أم ملحاً أجاجاً وهو على كافة طعومه له شأن في حياة الإنسان، وسائر الكائنات الحية قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)([11])، ومن بين عطاءات الله تعالى من خلال البحر الواسع ما جاء في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)([12]).
وينبغي الحفاظ على الماء وعدم إلقاء الفضلات العضوية به أو التغوط فيه، فإن ذلك يحدث آثاراً ضارة على الإنسان والحيوان والطير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايبولن أحدكم في الماء الدائم (الذي لا يجري) ثم يغتسل فيه"([13])، وقد نهى الرسول عن التغوط في الأماكن التي يرتادها الناس مثل شفير البئر، وفي النهر وتحت الشجرة المثمرة، حفاظا على سلامة البيئة من التلوث وحماية الناس من الأمراض.
ثالثاً: الهواء: هو من نعم الله تعالى، إذ تحيا به سائر الكائنات مادام في طبيعته التي أوجدها الله تعالى فيه، لكن استخدام الإنسان لكثير من المستجدات جعل الأضرار التلوثية تتسرب إلى الهواء متوتر فيه بما يجعله في كثير من حالاته ومستوياته مؤذيا وضاراً، ولذا زاد التنبيه في العصر الحاضر إلى مخاطر التلوث الهوائي، الناتج من أدخنة المصانع والحرائق المشتعلة من المخلفات الزراعية، والتلوث الحراري والإشعاعي إلى غير ذلك من الملوثات التي تلحق أضرارا قاتلة، فضلا عن الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات وسائر الدواب والطيور، ويبقى الحفاظ على البيئة بمجموع عناصرها ومكوناتها مسئولية جماعية، يتحمل كل واحد دوره فيها بلا إهمال وتقصير.
د/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com
([1]) الروم 41.
([2]) رواه ابن ماجه والدار قطني.
([3]) رواه مسلم ومعنى: لا تُزْرِموه: لا تقطعوا عليه بوله، ومعنى مه مه: أي كف وامتنع، وشنه عليه أي صبّ الماء على البول.
([4]) البقرة 205.
([5]) تفسير القرطبي جـ3، ص18.
([6]) رواه أبو داود وابن ماجة، وأحمد.
([7]) الأعراف 56.
([8]) رواه أحمد وفي رواية "وترابها طهوراً"، والفقرة جزء من الحديث.
([9]) في رواية الملاعن الثلاث.
([10]) أورده الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخّرجاه.
([11]) الأنبياء 30.
([12]) النحل 14.
([13]) متفق عليه – البخاري في باب البول في الماء الدائم، ومسلم في باب النهي عن البول في الماء الراكد.