يهدف الإسلام في مشروعه الاجتماعي للحياة إلى دعم العلاقات الإنسانية بين البشر، ونشر قيم التسامح والعفو عن مساوئ الأقارب وسائر الأهل والأصدقاء، فهؤلاء أحقٌّ الناس بالصحبة الحسنة، والكلمة الطبية، التي تأتي بالثمرات الناضجة، والروائح العطرة في أهوية العلاقات المشبعة بالعفو والمحبة والمودة بين الناس جميعاً.

فالعفو خلق إسلامي حميد دعا القرآن الكريم إليه، وحضّت عليه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا ينبغي أن يوجه أولا إلى الأزواج والأولاد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).([1])

والعفو صفة من صفات الله تعالى، وهو خلق من أخلاق القرآن، ينبغي أن يحرص عليه سائر المسلمين؛ ليستحقوا عفو الرحمن الرحيم، وغالبا ما يكون العفو والصفح بمعنى واحد، لكن دلالات لألفاظ تشير إلى أن معنى العفو ترك المؤاخذة، ومعنى الصفح: الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وبذلك يشمل ترك العقاب، واللوم، ويعني أيضا إزالة أثر الخطأ من النفس.

وجاء الأمر بالعفو في قول الله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)([2])، والصديق من يصدق الآخر في القول، ولذا ينبغي أن تكون الثقة قاعدة لإطار العلاقة بين الصديقين، وعندما يتعرض المؤمن لتجاوزات الأصدقاء ويُلقى عليه مالا يقدر على احتماله، فعليه أن يتريث، وأن يهدأ لحين استجماع قوته وشجاعته، التي يصل بها إلى العفو والتسامح، وتبقى المكافأة والأجر العظيم من الله تعالى، وهو المشار إليه في قوله سبحانه (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)([3])، ويكون هذا الأجر متحققا إذا كان لدى الإنسان من القوة ما يؤهله إلى الدفاع عن حجته، فإذا لم يتحقق له ذلك كان العفو عن عثرات الأصدقاء بلا أثر، والافضل فيه، إذا كان ناتجا عن عجز وضعف عن المواجهة، فكلما كان الصفح ناتجا عن رغبة وقوة ورحمة ومقدرة، وجاء من المؤمن بلاَ منٍّ ولا أذى كان صفحا جميلاً.

إن انعزال المؤمن عن الناس - وخاصة من يروم فيهم متطلبات الصداقة- ليس من التفعيل الحميد لأخلاق الإسلام، وجاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مفضلا المخالطة مع الصبر، عن الانعزال الذي لا حاجة فيه إلى الصبر على الآخرين، قال عليه الصلاة والسلام: "المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبُر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".([4])

ولابد أن تكون الصداقة مبنية على الصدق في القول والعمل والشعور بالمحبة نحو الأصدقاء، والقدرة على العفو والتسامح عن عثراتهم، التي لا يتعارض العفو فيها مع الشرع الحكيم، كما يتحتم على المسلم أن يُحكم ميزان علاقته بأصدقائه، بحيث تكون مبنية على الثقة بالله، واحترام الصديق قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليلة فلينظر أحدكم من يخالل"([5])، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أقال مُسْلماً عثرته أقال الله عثراته يوم القيامة"([6])، وقال صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا الكلام عثراتهم([7])، وجاء في رواية أخرى: "أقبلوا ذوي الهيبات زلاتهم مالم تكن حدا".([8])

إن العفو خلقُ إسلامي ينبغي أن يوجه للناس جميعا بضوابط حاكمة، بحيث لا يُتخذ سبيلا إلى تجاوز الحدود والطغيان على الآخرين، ولا يكون تشجيعا لظالم، ويحسن بالمؤمن أن يراعي معاذير أصدقائه، وأن تُقدَّم لهم النصيحة الصادقة، وأن يصفح عن عثراتهم ويترك تأنيبهم عليها، وأن يقلل العتاب على هفواتهم، ذلك أن العفو عن الأصدقاء من صحيح الإيمان، الذي يستحق المتصادقون به عظيم الأجر والثواب.

دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com

([1]) التغابن 14.
([2]) الأعراف 199.
([3]) الشورى 40.
([4]) رواه الترمذي.
([5]) رواه أبو داوود.
([6]) نصب الراية للزيلعي
([7]) الأدب المفرد للنجاري (465).
([8]) مسند أحمد ج6، ص161.