لقد منح الله تعالى الإنسان كثيراً من النعم والوسائل، التي تعينه على تحقيق ما يطمح فيه، ويصبو إليه بمعايير ضابطة وموجهة لآليات المشروع الحياتي، وفق الإرادة القوية والعزيمة الملتزمة بالموازين الشرعية، التي تحفظ الحقوق للفرد والجماعة.

الإرادة القوية:

الإرادة هي أن تكون همة الإنسان منصرفة "أو متجهة" إلى أطيب الخلال وأعظم الفعال، وأروع الأهداف، ليسعى إليها، ويصمم عليها ويرتقي بها.

وللإرادة إطلاقات متعددة وفق المستهدف منها، فهي بالمعنى الأخلاقي الرغبة في الخير والعمل له، والحرص عليه، وأعظم الإرادات إرادة التقرب إلى الله تعالى، وعمل الطاعات المؤهلة للثواب العظيم، بحيث ينعكس ذلك على مسالك الإنسان مع البشر، ففي ظلال الإرادة القوية الصادقة تعلو الهمة، وتقوى العزيمة، ويضعُ المسلمُ لحياته أهدافاً مثمرة تنعكس على العلاقة بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبسائر البشر، إذ أن جموع الإرادات التي يستهدفها أصحاب العزائم لابد أن تكون مدعومة بالقوة، وعدم التراجع أو التأجيل والتراخي، أو الضعف والتخاذل في السعي إليها، والحرص على تحقيق النتائج المرجوة منها.

وليست الإرادة القوية منهجاً عشوائياً يخضع لرغائب الإنسان دون نظر لما يمكن أن يترتب عليها من حقوق أو مطالب للآخرين، فهي خلق إسلامي رشيد يتحتم اعتماده على العلم والإيمان، وعلى الذكر والرؤية النافذة لخير الدنيا والآخرة، إذ من الخطر البين أن يوجه الإنسان إرادته لتنال من الرغائب المستحقة للآخرين، وعليه أن يدعم أهدافه ونواتج قوة عزيمته بما تحقق من تجارب ناجحة في الحياة، وألا يستسلم أو ينهار لإحساسه بالفشل أو بحدوث شروخ وتصدعات في مشروع حياته، كما أن بعض الإرادات قد تتفجر بالقوة والعزيمة الهادرة، عندما يواجه الإنسان بظلم، أو إهدار لحقوقه، فتكون الانتفاضة بالحق والقوة، للوصول إلى ما يستحقه بعدل وإنصاف.

دلالات متعددة:

تتحقق بالإرادة القوية والعزيمة الصادقة أعظمُ الأعمال والإنجازات، ويتجلى ذلك في العديد من المواقف والأحوال، التي تحدث عنها القرآن الكريم، ونبهت إليها السنة النبوية الغراء، كما في صنيع الحكمين المخول لها الإصلاح والتوفيق بين الزوجين عند استشراء الخلاف بما يهدد العلاقة الحميمة بينهما قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا).(1)

ففي ظل الإرادة القوية المدعومة بالنية الصادقة يتحقق الإصلاح بالحكمين، وصولا إلى التوفيق بين الزوجين، أو أن تكون الإرادة متسعة لتشمل الحكمين والزوجين وسائر أوليائهما.

وتمتد قوة الإرادة إلى الفتيات الضعيفات اللائى أردن التعفف والتحصن ففي ظلال ذلك يجب تحاشي عضْلهن عن الزواج؛ تحقيقا لرغائب أجسادهن، وحتى لا يُعرضن للوقوع في الحرام، قال تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (2)، والهدف من هذا الإكراه المنهي عنه تحقيق عوائد مادية دنيوية لا تقدر بشيء في مقابل ما يمكن أن تتعرض له الفتيات من خطأ وإثم عظيم.

ويتحتم لإنجاز الأعمال وتحقيق النتائج أن تُدعم قوة الإرادة بالأسباب والوسائل المعينة، فبدونها لن تثمر قوة الإرادة عن شيء، ولن تتحقق الأهداف بالطموح والأماني والإرتكاز على القول الذي لا يقدم ولا يؤخر، ونقصد بذلك ما كان من أمر الخروج للجهاد في عصر المبعث النبوي، فالذين يتكاسلون أو يُراءون الناس ويُعلنون رغائبهم في الخروج دون تحصينهم بالوسائل والإمكانات المعينة فإن ذلك الإعلان لا قيمة له، خاصة إذا تولد من مواقف نفاقية مكشوفة، وهذا ما تضمنه قول الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ)(3) لعدم الصدق في النية والإعداد للقتال، وعلى جانب آخر يتحقق الناتج الإيماني في ظل الإرادة القوية والنية الصادقة والعمل المصاحب لذلك، قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا).(4)

وتتحصن قوة الإرادة بالعزيمة، والمضي في سبيل الهدف، وعدم التراجع، خوفا من الإخفاق، حيث تجلى ذلك في موقف للرسول مع أصحابه قبل الخروج لملاقاة الأعداء على مشارف المدينة في غزوة أحد، فقد طرح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر للنقاش والمشورة؛ احتكاماً إلى قول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(5)، وقال صلى الله عليه وسلم "فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وتدعُوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم" كان رأي الرسول بعدم الخروج، وهذا ما تحمس له وحبذه عبد الله بن ابي ابن سلول، الذي اشتهر نفاقه فيما بعد، إلاّ أن نفرا ممن حّبب الله إليهم الاستشهاد في سبيله قالوا:

يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا لا يَرَوْنَ أنّا جبنّا عنهم وضعفنا" وتحاور القوم واتضحت غلبة الرأي القائل بالخروج للقتال في مقابل رؤية الرسول بعدم الخروج، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجمعة ولبس ملابس القتال، وتهيأ للخروج وشهد المسلمون حال الرسول فقالوا: "يا رسول الله استكر هناك وليس لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل"(6)، ففي ظل الإرادة القوية وعدم الخضوع للتراجع تحركت المسيرة المجاهدة لحماية الإسلام، قال الشاعر:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة *** فإن فساد الرأي أن تترددا

ويتجلى في مقام السنة النبوية مدى التحصن بالاستعانة بالله تعالى، وعدم الاقتصار على القوة الإرادية، وحتمية الاحتكام إلى قدرة الله، حتى يأمن الإنسان كَدَر الحياة، ويوفق في تحقيق ما يستهدفه ويسعى إليه، قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".(7)

نماذج دالة:

تكشف المشاهدات الحياتية عن نماذج عديدة من البشر، قدموا منتجات كثيرة ورائعة يتحقق الخير العميم بها، والذي تعود آثاره إلى صاحبه، وإلى غيره من الناس، ونلحظ هذا عند الكثيرين، الذين كَتُبوا وألفَّوا وأبدعوا ما يعجز عنه الآخرون، وذلك حادث متحقق قديما وحديثا، ولنشهد مثلا ما قدمه الإمام الطبري(8) من مؤلفات في التفسير والتاريخ وسائر المعارف، وكذلك أبو حامد الغزالي(9)، في مؤلفاته العديدة مثل إحياء علوم الدين وغيره، ومن هؤلاء أيضاً جلال الدين السيوطي(10)، فقد تحصن هؤلاء بالإرادة القوية، التي تحملوا بها الصعوبات، ولم يقفوا حيارى أمام المعوقات، التي يمكن أن تقهر الكثيرين، ولربما تصدت لهم حالات من الإخفاق، لكنهم لم يستسلموا لها، وتجاوزوها مع العزيمة وقوة الإرادة، ومقاومة المغريات، فما أخطر أن يتسرب الخوف من عدم الوصول إلى النتائج المرجوة، ولذلك لابد من التصالح مع الذات، وتنمية المهارات، وتحديد الأهداف والحرص على الجودة والاتقان، ومتابعة التجارب الناجحة للآخرين والاستفادة بها، كما يلزم على جانب آخر الحذر من المثبطين، الذين لا يعملون، ولا يحبون أن يعمل الناس، والذين ينبغي تجنبهم، وعدم الركون إليهم، قال تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ)(11).

وفي كل الأحوال يلزم للإنسان أن يتقوى بالإرادة، ويسعى إلى تحقيق الهدف المأمول، دون طغيان على حقوق الآخرين.

د/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com

(1) النساء 35.
(2) النور 33.
(3) التوبة 46.
(4) الإسراء 16.
(5) آل عمران 159.
(6) رواه أحمد والنسائي، واللأمة: الدرع، وينظر كتاب "قصص القرآن" لمحمد أحمد جاد المولى وآخرين ص358، طبع الحلبي، 1979م.
(7) رواه مسلم، ج4، ص252، وابن ماجة، والنسائي وابن حبان.
(8) ولد أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في فارس عام 838هـ، وتوفي ببغداد سنة 923هـ، وهو صاحب المصنفات الكثيرة، ومنها أكبر كتابين في التفسير والتاريخ.
(9) ولد الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد) في (طوس) إحدى مدن خراسان من بلاد فارس عام 450هـ، وتوفي عام 505هـ (1111م).
(10) ولد السيوطي (عبد الرحمن جلال الدين) عام 849، وتوفي سنة 911هـ، وله أكثر من خمسمائة مصنف ومنها كتاباه المزهر وحسن المحاضرة.
(11) الأنعام 116.