وضع الإسلام موازين قياسية لأطر التعامل بين الناس، بحيث لا يطغى واحد على الآخر، ولا ينتهب إنسان ما ليس له، فيضيع الحق على صاحبه، وتتسرب الكراهية والبغضاء إلى المقهورين والبسطاء، وسائر المجتهدين في الحق، لغياب العدالة عن قصد أو تغافل بغيض، وذلك عندما يحلُّ الغش مكان النصح، ويُخلط الرديء بالجيد، فيظهر الشيء على غير حقيقته، ويختفي العيب لستره بمكر ودهاء، ويأخذ هيئة مزيفة فيبدو في غير شكله حسنا جميلاً، جيد الصنعة، وترتفع قيمته زوراً وبهتانا، أو يُسرق العلم والابتكارات وسائر المعارف فتؤول الثمار لغير ذويها، اعتمادا على التزييف والخداع.

والغِش: نقيض النصح، وهو مأخوذ من الغشش وهو: المشرب الكدر، ومن معانيه: خلط الرديء بالجيد، وأصل الكلمة يدور حول معاني التغطية والإخفاء، وهو خيانة وصورة قميئة تعبر عن الطمع والإفراط في الأنانية، وممارسة الظلم والافتراء والكذب والخداع، ولذلك أمثلة كثيرة منها:

1- الغش في التجارة:

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً عن نشاطات قومه، بدءاً من طفولته وصباه، فقد رعى الغنم، وانضم إلى عمه أبي طالب في رحلة تجارية إلى الشام، ثم باشر صلى الله عليه وسلم التجارة مستقلا ومتحملا تبعة التصرف بالبيع والشراء في أموال السيدة/ خديجة بنت خويلد، وكان الصدق والأمانة وحسن التصرف لديه بمثابة مقدمات موفقة لزواجه منها فيما بعد، وعندما كُلف بالرسالة ومهام التبليغ كانت ذاته مهيئة لتأصيل المنهج الإسلامي في التعامل بالبيع والشراء، ووجوب الالتزام بآداب التجارة، بحيث يكون كل متعامل بهذه المهنة صادقا في العرض، رحيما في السعر، وبحيث لا يحتكر السلعة لحسابه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له"([1]).

وللغش التجاري صور كثيرة، "ففي الأسواق يحدث الغش حتى في تجارة المواشي فتحبس الألبان فيها، للإشعار بكثرة الإنتاج، أو تملأ أمعاؤها عنوة بالماء، لتجمل الصورة، ويستحسن الناس زيادة الحجم، أو ترش البضاعة بالماء؛ ليزداد الوزن، أو يكبر الحجم، ويتم العبث بالموازين والمكاييل، وتُخفي العيوب، وتبرز المحاسن، أو تحجب السلعة عن الراغبين فيها؛ تمهيدا للمغالاة في سعرها، حتى يزداد الربح".([2])

ويتحقق الغش بصور كثيرة – إضافة إلى ما سبق – خاصة في الأطعمة والأشربة والأدوية والفاكهة، وخلط اللبن بالماء أو بغيره، فعن صفوان بن سُلَيْم أن أبا هريرة رضي الله عنه مرّ بناحية (الحَّرة) فإذا إنسان يحمل لبنا يبيعه، فنظر إليه  أبو هريرة، فإذا هو قد خلطه بالماء، فقال له أبو هريرة: كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: خلص الماء من اللبن"([3])، كما يمتد الغش إلى الأجهزة الحديثة كالسيارات والأدوات المنزلية والأدوية المنتهية الصلاحية والمنتجات الزراعية وغيرها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صُبْرة([4]) طعام، فأدخل يده فيه، فنالت أصابعه بللا([5])، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟

قال: أصابته السماء([6]) يا رسول الله.

قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا"([7])، وقد جاءت جملة "من غشنا فليس منا" بذات اللفظ في أحاديث أخرى، وأضيف إليها ما يؤكد النهي عن الغش على الإطلاق، ففي رواية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس مِنّا، والمكر والخداع في النار"([8])، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليس منا" أي ليس الغش من أخلاقنا ولا من سنتنا.

ويضاف إلى ذلك الغش في الكيل والميزان المنهي عنه بقول الله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)([9])، وصور ذلك كثيرة، مع وضوح التحذير منها، والنهي عنها.

دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com


([1])  مسلم.
([2])  الثروة في الإسلام للدكتور/ السيد محمد الديب، ص42، طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
([3])  رواه البيهقي والأصبهاني موقوفا بإسناد لا بأس  به (الترغيب والترهيب، ج2، ص73). .
([4]) صبرة طعام: طعام مجمع في إناء مثل حبوب القمح والأذرة.
([5])  أي نديا مبللاً.
([6])  أى المطر.
([7])  رواه مسلم وابن ماجه والترمذي.
([8])  رواه الطبراني وابن حبان.
([9])  المطففين (1، 2، 3).