من وجوه الإعجاز في القصص القرآني

1 دقيقة قراءة
بواسطة Ahmed Eldeeb
من وجوه الإعجاز  في القصص القرآني
Photo by Sidik Kurniawan / Unsplash

إن أيّ تعريف للقرآن الكريم مهما علا قدره وارتفع بيانه لا يحقق الغرض من كونه جامعاً مانعاً، ودالاً معبراً عن ظواهر بيانه ومكنون أسراره، فقد وقف المستقبلون له منذ بدء نزوله حيارى أمام أسرار الإعجاز فيه، وكانت شهادات الخصوم والأعداء قديماً وحديثاً من دلائل قوته، وتأكيد العجز عن الإتيان بمثله، قال تعالى: [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ]([1])، وكان التحدي في الإتيان بعشر سور، قال تعالى: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]([2])، وقالوا عن القرآن إنه افتراء على الله تعالى ومن تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، فكان التحدي بسورة واحدة، وذلك ما جاء في قول الله تعالى: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ]([3]).

وقد سجل تاريخ الدعوة الإسلامية ما كان بشأن عنف المواحهة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومحالات بعض القرشيين أن يأتوا بعبارات أو سور قصيرة، فكان العجز الذي أكدوا به الإعجاز القرآني، وأنه من كلام الله تعالى، وليس مؤلفاً بصياغة بشرية يأتي إليها القصور وعدم التمام، وتأكد هذا مع كثرة الشعراء والكتاب والخطباء فيهم، وذكر القرآن الكريم في بيان مؤكَّد للرسول صلى الله عليه وسلم بحق هذا التحدي، قال تعالى: [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]([4]).

ومما قيل في تعريفه: إنه كلام الله تعالى المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتعبد بتلاوته، والمتحدي به الإنس والجن والعالمين..، وقد فصَّل الله تعالى فيه جميع ما يتصل بالحياتين الدنيا والآخرة، قال تعالى: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]([5])، وكتب السيد محمد رشيد رضا تعريفاً للقرآن الكريم، في مستهل عرضه لكتاب إعجاز القرآن للرافعي، قال: "القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه، في علومه وحكمه، وفي تأثير هدايته، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة..."([6]).

ومما كتبه الشيخ محمد متولي الشعراوي عن المعجزة الداعمة لرسل الله تعالى، 0قال: "هي خرق لنواميس الكون، أو لقوانين الكون يعطيها الله سبحانه وتعالى لرسله ليدل على منهجه... ويثبّتهم به.. ويؤكد للناس أنهم رسله تؤيدهم السماء وتنصرهم... والسماء حين تؤيد وتنصر.. تقف قوانين البشر عاجزة لا تستطيع أن تفعل شيئاً"([7]).

وعلى ذلك فمعجزات الرسل يجب أن تكون خرقاً لقوانين البشر، وتحدياً لمن أُرسل إليهم الرسول، كما يلزم أن تكون فيما نبغ فيه قومه؛ حتى يكون التحدي مقبولاً ومُفحماً وقوياً، فسيدنا نوح عليه السلام كان على دراية بصناعة الفلك بأقصى درجَات التميز فيها، والتي وظفها في صناعة سفينته التي نال بها السخرية من الناس، دون أن يشكر عليها، مع أنها مستهدفة لتحقيق الأمان والنجاة لهم، قال تعالى: [وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ]([8]).

ولعل رده عليهم بالسخرية منهم تطلُّبٌ للموقف، وإشعارٌ بعجز إدراكهم، وقصور فهمهم عن المتغيرات الطبيعية، التي على وشك الحدوث، تمهيداً لهلاكهم، ويصل عليه السلام إلى مرحلة إتمام الفلك في تفصيلات تحدثت عنها كتب التفسير والسِّير والتاريخ، فيضطرب الكون ويفور الماء، وتختفي كثير من معالم الأشياء، ويسعى الناس إلى الحماية من الموت غرقاً، فكانت دعوة نوح عليه السلام إلى حملهم في الفلك، لانقاذهم من الهلاك، قال تعالى: [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]([9]).

ويلتقي سحرة فرعون بسيدنا موسى عليه السلام؛ للدخول معه في صراع عجيب، وحرب فيها من الأخيلة أكثر مما فيها من المعارف، فينتصر عليهم، إظهاراً وتحقيقاً لإعجاز الله تعالى بنصره لرسوله عليه السلام، قال تعالى: [قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى]([10]).

وتتجلى أمُّ المعجزات لموسى عليه السلام في العصا بعدة مواقف منها ما كان بحق السحرة حيث ابتلعت كلَّ ما صنعوه واعتمدوا عليه، وتَرَاجعَ السحرة بتحول حالتهم من إبهار الناس وإرهابهم إلى الإيمان بموسى ودعوته بعد أن تسلل إليهم العجز البشري أمام قدرة الله تعالى، وجاء الخطاب القرآني عن موسى بحق هذا الموقف، وذلك في قوله تعالى: [وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى]([11]).

ويضرب بعصاه البحر فينفلقُ إلى فِرْقين كل واحد كالطود العظيم، وتحقق له النجاة التي يتلوها الإغراق لفرعون وملئه، كما تجلى إعجاز الله لموسى في عدد من المعجزات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى، لكنها تتفق في دعمها بالقدرة الإلهية، وتحقيق المستهدف منها بحق موسى وهارون عليهما السلام.

وتصل مسيرة الأنبياء والمرسلين إلى عيسى عليه السلام، حيث تتجلى المعجزة فيه من قَبل أن يولد، فقد جاء من أمٍّ بلا أب، وصولاً إلى أمر التكليف واستقباله للإنجيل، وما كان فيه بحق الدين والدنيا، قال تعالى: [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]([12])، ولا تقتصر قدرات الله تعالى على ذلك بل تتواصل ظواهر الإعجاز فيه بمجالات أخرى تنعكس آثارها على قومه، ويرونها متحققة فيه وماثلة أمامهم، فيبرئ الأكمه "الأعمى" والأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله تعالى، فجريان هذه المعجزات تفعيل إعجازي لقدرة الله تعالى، التي يجريها في المواقف الداعمة لرسل الله وكتبه المنزلة عليهم لإبلاغها للبشر.

تعدد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم:

عندما تقدم البشر، وارتقى الفكر الإنساني بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام؛ ليكون  خاتماً للرسل والأنبياء، وجاءت معجزته الكبرى كتاباً يثير يقظة العقل، ويحركه إلى التأمل والتفكير، فكان القرآن الكريم الذي جاء إعجازاً للعرب؛ لأنهم أرباب الفصاحة وأهل البلاغة والبيان.

وتميز القرآن الكريم بخصائص فريدة من وجوه الإعجاز؛ أفاضت فيها كتب البيان والعقيدة والتفسير وغيرها القديمة والحديثة، والتي لم يقتصر القرآن عليها، ففيه الكثير الذي غاب عنا، ولا سبيل لاستقصائه، لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، وتعددت وجوه الاعجاز فيه، فمنها الاعجاز التشريعي واللغوي والبلاغي والدلالي والبياني والعلمي والقصصي والعددي والطبي، فضلاً عن صموده في معارك التحدي، وعدم تراجعه في صدّ المهاجمات الكثيرة للانقضاض عليه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم منتصراً به منذ المراحل الأولى لنزوله وتبليغه، ولا زالت أسباب القوة فيه هي العوامل الداعمة لبقائه وخلوده إضافة إلى عهد الله بحفظه، وتحقيق الفوز لمن احتمى به وعمل بما فيه.

ويتجلى بيان ذلك في أن القرآن معجزة مستمرة لا تنقضى عجائبها مهما تقدم الزمن بها وكل يوم يصل الباحثون والمتأملون فيه إلى معان لم يهتد السابقون إليها في مئات السنين السالفة، كما يأتي خلوده تأكيداً وإثباتاً لاتساع قدرة الله تعالى في الكون.

وتتجلى بعض ظواهر الإعجاز القرآني في الحديث عن الغيب، خاصة أن النظر المتقدم لبحث الإعجاز كان في طفولته المبكرة، ولم يكن التوسع في ذلك بالماضي قريباً مما آل إليه الحال في أزماننا الحاضرة، وقد كان حديث القرآن عن الغيب يحقق الإبهار بصورة إيمانية متميزة، إذ لم يكن البشر على علم بما غاب عنهم من حوادث المستقبل، وذلك مثل نواتج الصراع بين الفرس والروم، تلك التي لم يستطيع أحد تحديدها في زمن نزول القرآن، وجاء الإخبار في بداية سورة الروم بالنتيجة الحاسمة قبل حدوثها بإعجاز غير قابل للطعون، قال تعالى: [آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ]([13]).

والغيب: ما غاب عنا ولم نشاهده أو ندركه، إما لأنه لم يحدث بعد، أو أنه حادث في حياتنا ولم نشاهده ونتعرف عليه، وبذلك تبقى مرجعية علم الغيب إلى الله تعالى، والذي جاء إثباته وتأكيده في القرآن الكريم، قال تعالى: [قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ]([14])، وجعل القرآن الإيمان بالغيب من خصال المتقين قال تعالى: [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]([15]) وهاتان الآيتان هما البداية لسورة البقرة أطول سور القرآن، وقد نزلت بالمدينة، وأخرج الترمذي بحقها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيئ سَنَام([16]) وسنام القرآن سورة البقرة، وفيه آية هي سيدة آي القرآن الكريم هي آية الكرسي"، وقد قدمت هذه السورة العديد من القصص والكثير من الجوانب التشريعية، والتي يتسع مجال الحديث عنها، والناظر إلى أطول آية فيها يرى العديد من جوانب العظمة في القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي لازالت محاولات التقليل من شأنه تبوء بالفشل والنكوص والانهزام.

من خصائص القصة القرآنية

تُعد القصة القرآنية ذات معالم أو خصائص تنفرد بها شكلاً ومضموناً بما يجعل البشر حيارى عاجزين عن الإتيان بشيئ يشبهها ويضاهيها، قال تعالى: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]([17]).

وينساق بعض نقاد الأدب في العصر الحديث إلى القول بإخضاع القصة القرآنية للمقاييس الفنية، التي تمّ تأصيلها والاعتماد عليها في الإبداع والنقد، ولكن ذلك غير سديد، لأن القرآن ليس نصاً أدبياً من صنع البشر، حتى يتم إخضاعه للمعايير الفنية التي يُحاكم بها النص الأدبي، سواء أكان قصة قصيرة أم رواية طويلة، ذلك أن القصة القرآنية متميزة في تشكيلها، ومعجزة في عرض مضمونها، أي أنها ذات ضوابط أو معالم خاصة بها يعجز البشر عن السير في طريقها لهذا التميز المعجز، ويمكن أن تكون كلا متكاملاً كما في قصة سيدنا يوسف، وقد تكون ذات مواقف إعجازية، حيث تُعرض بدرجات غير متساوية في العديد من السور، ليكتمل من مجموعها تمام القصة في موضوعها المستهدف، وربما يحدث التكرار الظاهري الذي يُساء الفهم في توجيهه أحياناً، ولكن إيراده قد يكون لهدف تأكيدي لبعض معروضات القصة، كما في حوادث تصدي سيدنا إبراهيم للملاحدة على اختلاف شخوصهم وتوجهاتهم، وكما في مواجهة موسى عليه السلام لمجموع السحرة الذين جاءوا من المدائن حاشرين.

ولقد قرر القرآن الكريم أن مجيئ القصص به لأهداف دعوية، وليس لبواعث فنية، وهو تنزيل إلهي خاتم ومصدق لما قبله، ورحمة وهداية للبشر من بداية زمن النزول، قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]([18]).

إن القصة القرآنية من وسائل التعبير، وغير خاضعة للقواعد المستحدثة التي يُحاكم النص بها، وهي ليست محل اتفاق بين النقاد، وأن محاولة تطبيقها على النص القرآني يلزم من خلال ذلك بيان أن هذا الموقف أو ذاك خاضع للضوابط وآخر ليس خاضعاً لها، وهذا على الإجمال غير متحقق، بذات الاشتراطات على النص القرآني، كما أن القصة تحمل مضموناً ذا غرض إعجازي يُستكمل من مجموعة الأغراض المكونة للصورة القصصية بهدف تحقيق بعض الجوانب الخاصة بالتعبير القرآني، ولكن ينبغي عدم إساءة الظن برغبة بعض المعاصرين، الذين يرون أن القصة القرآنية ذات تقنيات فنية إعجازية، أي أن القرآن قد سبق الشرق والغرب في تقديم القصة بهذه المعايير، ومع التقدير لذلك بتخوف وحذر نعتقد أن هذا الكلام لا يخلو من التكلف في إخضاع الصورة البلاغية بالنسق القرآني لمستجدات العصر من خلال أصول اللغة ومكونات القصة من أشخاص وأحداث ولغة وأسلوب وصراع وإثارة وتشويق وغير ذلك.

إن الشأن في القرآن أنه وحي إلهي معجز للبشر، وتنطلق الرؤية والمعايشة له بعدم إخضاع القصص فيه لمنظومة القصة الفنية أو المعجزة الكونية، أو المعجزة العددية على اختلاف ضروبها؛ لأن هذه الأمور غير ثابتة وأنها قابلة للتحول والتغيير، ولا تستقر بين عصر وآخر، وحتى بين بيئة وأخرى، وهي محل للأخذ والرد، وللقبول والرفض، وماذا يكون الحال مثلاً لو أخضعنا الحدث القرآني بشأن إشارة علمية أو عددية أو قصة فنية، ثم تغيرت معايير هذه الأمور! وبهذا لا يصح أن يكون القرآن –وهو كتاب معجز- في مهب الريح من خلال هذا الطرح البياني، حيث يُسلِّط عليه من يشاء حكمه ورأيه، ثم تتغير الأمور، ونبحث عن تعديل للفهم والتناول للقرآن بما فيه من وجوه للإعجاز على أية صورة، بمعنى تأكيد القول بأن كل ما يتفق معه من هذه المستحدثات يكون الحكم عليها من خلال التوافق أو التقارب، وليس عن طريق إخضاع القرآن لها، ولربما تتقارب بعض القصص العربية، الحديثة من بعض النواحي مع بعض القصص القرآني لكن التوافق التام ليس وارداً على الإطلاق.

من أغراض القصة القرآنية

تُساق القصة القرآنية للتعليم والموعظة وحسن القدوة، وليس المستهدف منها تفصيل التواريخ وتسجيل الوقائع والسنين، كما أن من المعاني الثابتة لها من خلال الإرشاد والتعليم أنها تأتي للهداية والاعتبار بعرض الأخبار الخاصة بالأمم السابقة، من عهد آدم إلى زمن استكمال نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتَعْرِض للآثار الباقية من سير القرون الغابرة، كما في قصة أهل الكهف، قال تعالى: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]([19])، والمعنى: تتبع آثارهم للوصول إلى الهدف من بيان القصة وعرضها.

وقال تعالى في ذات السورة بشأن نبي الله موسى: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا]([20])، انطلاقاً إلى قصة موسى والخضر([21]) فهي من قصص التعليم والهداية، حيث أخذت المواقف تتطور بحكم مواصفات الأحداث من موقف لآخر في أسلوب ذي صياغة قرآنية فريدة، يكثر فيها الحوار، وينمو الصراع، والخضر لا يعلم كُنه الأشياء، ولا دوافع موسى ومدى مخزونه المعرفي للحكم عليها، والتصرف فيها إلى أن استحكمت العقدة، وانتهى العَرْض، إيذاناً ببدء التوضيح والبيان بعد طول الرحلة البحرية، التي اشتدت فيها رغبة موسى عليه السلام الوصول إلى أبعاد الحقيقة، كما ضعفت فيها قدرة الخضر على الصبر، إيذاناً بانتهاء الرحلة وما بها من خروقات غير معلومة الحقيقة من ظاهرها، قال تعالى: [قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا]([22]).

ويبدأ الجزء الثاني وفيه البيان والتعليم والهداية وسائر ما ترشد إليه القصة من وجوه للإعجاز تتناسب مع كلام الله تعالى، وتتدنى عنه كل المحاولات القصصية في آية صياغة بشرية، وجاء القصص القرآني في مجالات أخرى عديدة، سعياً إلى بيان جهاد الرسل عليهم الصلاة والسلام، وإيضاح صبرهم على التبليغ، وتثبيت عزائمهم مع أقوامهم، فهذه الجوانب بما فيها من تعليم وهداية وجهاد للرسل، وإخبار عن قصص السابقين تلتقي مع مجموع القصص بسورة الكهف مثل قصص أصحاب الكهف والرقيم وموسى والخضر وذي القرنين وغير ذلك.

وجاءت القصة القرآنية بهدف العرض لبعض الجوانب الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم منذ بداية نزول القرآن عليه، قال تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]([23]) وتلك كانت البداية التي أعقبها القلق والخوف وصولاً إلى تمام التبليغ وإيضاح التفسير والتشريع.

ويؤكد الكثير من مجموع القصص الأغراض المتشابكة التي تلتئم فيها الدعوة إلى الخير والصدق في القول، ومقاومة الخارجين عن المنهج الإلهي من خلال جموع الأنبياء والرسل؛ تأكيداً لحقيقة وحدة الأديان السماوية مادامت غير خاضعة لأغراض البشر من ذوي الأهواء المتضاربة، وكانت دعوة الرسل استكمالاً للمنهج الذي سار عليه أنبياء الله ورسله، وصولاً إلى خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، الذي خوطب بقول الله تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]([24]).

إن التنوع في القصة القرآنية أمر مبهر وعجيب، ومعجز بلا مثيل، ولا يمكن حصره في عدد محدد الأهداف والسياقات مع تأكيد العجز عن تمام الإحاطة بكل مضمون القرآن ومحتواه، فهو عالم واسع، ومحيط زاخر، لكن الباحثين عن الحقيقة وأوجه البيان في هذا الموضوع قد يكتفون بالقليل الذي لا يغني عن الكثير.

من ألوان القصة القرآنية

إن القصص القرآني ذو مذاق خاص من ناحية تعدد الموضوعات وأهدافها وتميزها، وعدم الاتفاق في المنهج بين قصة وأخرى، وكذلك من حيث أنماط الأسلوب سرداً وحواراً، بمعنى استحالة وضع منهج أو معيار ثابت تخضع له كل القصص مع اختلافها التام عما يؤلفه الرواة من قصص وحكايات، وقد تأتي القصة القرآنية مكتملة من البدء إلى الانتهاء، أو تكون قريبة من التمام، إذ تعرض بعض الأحداث فيها بسور آخرى، كما يأتي جزء من قصة في سورة، ثم تستكمل في سورة أو عدة سور أخرى بما يُفهم من ظاهره أنه تكرار وإعادة، ولكن الأمر مرتبط بأهداف تنبثق مما يفهم إنه تكرار، مع إمكانية الوصول إلى أغراض ذلك، والعبرة في بيان القصة القرآنية على عمومها تحقيقها لأهدافها، التي تتجاوز بيان التقدير البشري المحدد، إذ ترتقي إلى الدرجة العالية من السمو والتقديس.

والقرآن كلام الله تعالى المعجز لسائر البشر، ولذا يبقى القصص فيه متفرداً ومتميزاً في كافة نواحيه، حتى لو تحقق التقارب مع المنهج في بعض القصص أو بعض الأهداف والمواقف.

1- أشار كثير من الأدباء والنقاد والباحثين في ألوان القصة القرآنية، وهم مشمولون بالحس الإيماني والورع والتقوى وعمق البحث في الملامح الجادة لمعيارية الأدب الإسلامي أشاروا إلى تعدد ألوان القصة القرآنية، إذ أن الموضوع حقل خصيب لكل راغب في الوصول إلى النتائج والأحكام، التي لا يتسرب إليها الهوى والنوايا السيئة، بمعنى امتلاء الساحة بما يمكن الوثوق فيهم وعدم الشك في توجهاتهم، وقد يكون وجودهم ضرورياً في مواجهة من يتربصون بالقرآن الكريم بالإساءة إليه، وتحميل نصوصه ما لا يجوز، وهذا الانقسام ربما لا يخلو منه عصر أو بيئة، ولا خوف من ذلك، قال تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]([25]) ويأتي هذا التعدد واضحاً جلياً في قصص الأنبياء والمرسلين مثل قصص نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ويكون التعدد مرتبطاً بالمواقف الثابتة، وكم الأشخاص المحيطة بهم، وأُطر المقاومة والتصدي لهم، أو يكون التعدد في صورة قصص من البشر مثل أهل الكهف وأصحاب الجنة، وأصحاب الفيل، وسوى ذلك، كما يعرض القرآن لقصص بعض الغزوات والمعارك مثل غزوتي بدر وحنين.

2- استقر لدى كثير من نقاد القصة والرواية أن القصة القرآنية لا تخضع لمقاييس القصة العربية من حيث طول القصة وقصرها، أو بشأن آليات السرد والحوار، أو التشويق والإثارة، أو الصراع بين الخير والشر، لكنها تأتي مواكبة، للموقف أو الحادثة التي عرضت لها، كما أن القصص القرآني ذو طبائع خاصة بحق العرض التاريخي لمسيرة أنبياء الله ورسله، وفي أمر تقديمه لهم، وبيان مناهج دعواتهم، وفي ضوء ذلك يطول القصص أو يقصر وفق مقتضيات الأحوال، وقد جاءت قصص عدد من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في كثير من السور مثل البقرة وآل عمران والأعراف وهود ومريم والأنبياء والشعراء وغيرها، ذلك أن العرض يختلف بحق النبي أو الرسول بين الإجمال والتفصيل مثلاً، إذ عرضت سورة نوح لكثير من الجوانب والمواقف في حياته ودعوته، بينما جاء العرض مجملاً في سورة الأنبياء، والتي قال تعالى فيها: [وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ]([26]) وتأتي الأحداث بصورة أوسع من ذلك في سورة هود، قال تعالى: [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]([27]).

والمتأمل لمجموع الأحداث في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام يجد العرض في السورة الواحدة متناولاً لشريحة زمنية محددة دون خضوع للترتيب التاريخي ولا للهموم التي ووجه بها من قومه في تصديه لهم بشأن عبادة الأصنام والأوثان والكواكب والأفراد المدعين للألوهية، وتوزعت الأحداث بين مجموعة من السور، والتي يكتمل منها بيان الرسالة الإلهية لهذا الرسول وما حدث له من تصديات ومعارضات من قومه بل ومن أقرب الناس إليه، خاصة أنه عاصر طوائف عديدة من البشر في بيئات مختلفة، التقى بها خلال تنقلاته بين العراق والشام ومصر والحجاز، وتعبأ عرض القصة إجمالاً وتفصيلاً بالصراع المتعدد، حتى قوة المواجهة وتجليات القدرة بما يبعث على التشويق والإثارة، وصولاً إلى تحقيق الأهداف المقصودة منها، وتبقى النماذج القصصية المتنوعة بالقرآن الكريم في احتياج دوماً إلى البحث فيها والكشف عما بها من تميز وإعجاز.

دكتور/ السيد محمد الديب


([1]) الطور 34.
([2]) هود 13.
([3]) يونس 38.
([4]) الإسراء 88.
([5]) النحل 89.
([6]) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي ص14، مطبعة الاستقامة 1945م.
([7]) معجزة القرآن ج1، ص7، طبع سلسلة كتاب اليوم.
([8]) هود 38.
([9]) هود 41.
([10]) طه 65 – 68.
([11]) طه 69.
([12]) مريم 30- 31 .
([13]) الروم 1-5.
([14]) النمل 65.
([15]) البقرة 1، 2.
([16]) السّنام: كتل من الشحم محدبة على ظهر البعير والناقة، وهو من كل شيئ أعلاه.
([17]) يوسف 3.
([18]) يوسف 111.
([19]) الكهف 13.
([20]) الكهف 60، 61.
([21]) قيل إن الخضر كان نبياً، وقيل في راي واسع إنه كان من الصالحين، الذين يسعون إلى المعرفة، ويهدفون إلى التعليم، رغبة في تحقيق الهداية للبشر من خلال قدراته المحددة، التي لا تصل إلى مستوى النبي أو الرسل وقيل إنه مُنح ما يطلق عليه البعض العلم اللدني، وقيل غير ذلك.
([22]) الكهف 78.
([23]) العلق 1-5 .
([24]) النحل 125.
([25]) الحجر 9.
([26]) الأنبياء 76 -77.
([27]) هود 41.