أحوال النفس الإنسانية في القرآن الكريم

1 دقيقة قراءة
بواسطة Ahmed Eldeeb
أحوال النفس الإنسانية في القرآن الكريم
Photo by nega / Unsplash

النفس في بعض معانيها وإطلاقاتها هي الروح المرتبطة بالجسم، وأنها تتحرك معه، وتدير حركته، وتوجه رغباته ونزعاته وهي موطن التفكير والتدبير والاتزان، فلا تستقل بذاتها، ولا تنشق عن موطن الإرادة والاختيار، ويحتكم إليها في تحديد مكونات الإنسان، وتعدد ذكر الروح في القرآن الكريم، وبقى بيانها محفوظا في الغيب الإلهى، حتى إذا ما سئل الرسول عنها أجاب بنفي العلم منه، وإسناده إلى أمر الله تعالى؛ احتكاما إلى قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)([1])

ويقال: خرجت نفسه: أي روحه قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا ([2])، فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ([3]) وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) ([4]) وعلى هذا فالنفس والروح شيئ واحد.

وتطلق النفس على الذات، بمعنى أنها تشتمل الروح والبدن معاً، وجاءت مخاطباتها في القرآن الكريم في مواضع تبلغ المائتين والستة والتسعين من خلال تعدد أحوالها، وخضوعها لمتغيرات كثيرة، من حيث دلائل القدرة على خلق الله تعالى لها وتنقلها من حالة الاطمئنان إلى اللوم، وانحرافها إلى أمرها بالسوء للإنسان، الذي يحتويها، ويخضع كثيرا، لانزلاقها وفقد السيطرة عليها، وعدم ضبطها وصيانتها من الإبادة والإفناء قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ)([5])، بمعنى لا تُزْهقوا أرواحكم، وتقضوا على أبدانكم، وقوله تعالى في تأكيد هذا المعنى (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ)([6])، وقوله (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) ([7])، كما تطلق النفس على الدم والجسد والعينْ، وعلى العقل والقلب إضافة إلى ما سبق وفي ضوء ما ذكره أبو حامد الغزالي وابن قيم الجوزية([8])؛ إذ أن المعنى الذي يطلق على واحد من هذه لا يختلف كثيرا عما يطلق على غيره. 

والثابت أن النفس شيئ غير محسوس، وترتبط بحركة الإنسان، وتكشف عن توجهاته من حيث الفتنة والغرور، والتقوى والثقة بالله والإيمان بالقضاء، كما أنها لا تستقر على حال، وتحركها الميول والرغبات، وقد تصفو وتسمو فتدير عقل الإنسان وتفكيره، وتخضع إما إلى الاتزان والاعتدال، وإما إلى الفساد والضلال. 

مستويات النفس بين الإيمان والعصيان:

للنفس الإنسانية مع الإيمان والعصيان مستويات مختلفة نذكر منها: 

1- النفس المطمئنة: وهي التي ورد فيها خطاب مباشر في قوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي)([9]).

هذه النفس التي يفيض منها: " التوحيد والإحسان، والبر والتقوى، والصبر والتوكل، والتوبة والإنابة، والإقبال على الله، وقِصَر الأمل، والاستعداد للموت وما بعده"([10]) فالإيمان سلطان هذه النفس، ومما أورده القرطبي بحق النفس المطمئنة أنها: الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله ربُّها فأخبتتْ لذلك"([11])وقيل إنها المطمئنة بثواب الله، وقيل الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وقيل إنها الآمنة من عذاب الله، والتي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه، وقيل إنها المخلصة والعارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين، والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص، طائع مع أنه قد قيل فيها غير ذلك. ([12])

2- النفس اللوامة: وهي التي لا تثبت على حال واحدة، فهي كثيرة التقلب والتلوم وهو التردد، وهي التي أقسم الله سبحانه بها في قوله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)([13])، وكتب عنها ابن القيم فقال: "وهي من أعظم آيات الله فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة، فضلا عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتلطف وتكشف وتنيب وتجفو وتحب وتبْغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصى، وتتقي وتفجر إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كل وقت ألوانا كثيرة".([14])

وقيل هي نفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه دائما، وهذا قول الحسن البصري وقال غيره: "هي نفس المؤمن توقعه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان بخلاف الشقي، فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته".([15])

ولا تنافي بين هذه الأقوال: 

3- النفس الأمارة بالسوء: وهي المذمومة التي حدد ابن القيم معالمها فقال "التي تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلّص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له، قال الله تعالى عن امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)([16]).   

ولا شك في أن الشر كامن في النفس، وتتمخض عنه سيئات الأعمال، وأن توفيق الله سبحانه وتعالى ينجي العبد من المهالك، وتبقى إرادة الإنسان فيصلا في التخلي عن وساوس الشيطان وتسويلاته التي ينقاد لها ويخضع لتأثيرها ضعاف الإيمان. 

وللنفس درجات ومستويات كثيرة إضافة إلا ما ذُكر، وقد جاء في ذكرها بالقرآن الكريم أنها الراضية والمرضية والموسوسة... تلك هي الدرجات التي تنقسم إليها النفس الإنسانية، مع جواز أن تكون نفسا واحدة تنتقل بين هذه البيانات المذكورة، حسب أهواء النفس، وطبائعها المتغيرة، غير الثابتة على حالة واحدة. 

الحفاظ على النفس: 

النفس – بسائر إطلاقاتها وأحوالها – أمانة مهداة من الله تعالى للإنسان، يجب الحفاظ عليها، وعدم إلحاق الضرر بها، وإحكام السيطرة على سائر نزعاتها وأهوائها، والإنسان بناء إلهي يجب صيانته وعدم إتلافه، فقد خلقه الله تعالى للعبادة والطاعة، وإعمار الأرض واستمرار الحياة، لكنه ينحرف كثيرا بنفسه السيئة الضالة، والتي تأمره بالسوء فيقتل نفسه أو يقتل غيره، أو يُلحق الأذى ببدنه أو بالآخرين، بما يعد قتلا بطيئا، وتبديدا لنعمة الله تعالى في خلق النفوس بأبدانها، لتستمر العبادة، وتبقى الحياة إلى نهاية الإعمار الكوني. قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)([17])، وفي هذا المساق جاء توكيد السنة النبوية بالكثير من الأحاديث مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عداد السبع الموبقات وأكبر الكبائر: "قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق"([18]) وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه"([19])، فقتل النفس على أية صورة اعتداء على حق الله تعالى في إيجاد العباد، وبقائهم إلى المدى المقدر لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها([20]) في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسُّمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ابدا، ومن نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالدا فيها أبدا".([21])

ويمتد الحفاظ على النفس إلى وجوب السيطرة عليها من الغضب والانفعال، وحتمية كظم الغيظ والعفو والتسامح، وقد روي أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارا قال: لا تغضب. ([22])

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".([23])

فطغيان النفس على أية صورة، وبأي مستوٍ: سلوك شائن يجب الاحتراس من نواتجه الذميمة، وتوجيه الإنسان إلى الأفعال الطيبة والعلاقات الحميدة. 

مقاومة أهواء النفس:

الأهواء: هي الميول والرغبات، التي تٌوجَّه – غالبا – إلى الأفعال الشائنة والسلوكيات الضالة، وتستجيب النفس كثيرا لهذه الأهواء، قال تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ)([24])، وقد تُوغل النفس في الغواية، وتتجاوز الأهواء فتقتل نفسا أخرى بما يعد اعتداءً من الإنسان على ملكوت الله تعالى، وعمارته بالبشر، قال تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ)([25])؛ فقتلُ الأخ أخاه جريمة نكراء، كانت الأولى في سجل الاعتداءات على النفس الإنسانية.

ومن مطلوبات الإنسان: السيطرة على النفس، وإيقافُها عن التجاوز، وعزلها عن الأهواء والرغبات الضالة، فضلا عن انحرافها إلى الصفات الذميمة، كأن تطبع على البخل أو تنساق إليه بإرادات غير سوية قال تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ)([26])، فكل هذه الانحرافات المساقة بإرادة النفس تعد ظلما بيناً، يوضع في ميزان الحساب قال تعالى في الإقرار بذلك: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ)([27])، وتسيطر الشهوة أو الرغبة في المعصية على النفس، ويضعف الإنسان عن التصدي للأهواء، وينهزم أمام رغباته، وتبقى في احتياج إلى قوة إيمانية لإعادته إلى جادة الصواب، قال الشاعر: 

والنفسٌ راغبةٌ إذا رغَّبتـَـــهــــــــــــــــــــا *** وإذا تُرد إلى قليل تـقـنــــــــــــــــع

وقال آخر

والنفس كالطفل أن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

ويسيطر على النفس من بين هذه الأهواء: الحسد والخداع والخيانة والفجور والفتنة والضيق والغرور، وسائر المحركات إلى مواصفات النفس الأمارة بالسوء.

وتكون مقاومة الهوى بمغالبته ومحاربته، والتصدي لمخاطره وأضراره، والتخلص من غوايات الشيطان، وأصدقاء الشر الذين يزينون المنكر والضلال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحزن على مساوئ قومه، وابتعادهم عن الالتزام بمتطلبات العقيدة، ومعايير السلوك الحميد فخاطبه القرآن الكريم بقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) ([28]) ، وقوله تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)([29]).

ومن أخطر أهواء النفس تجرؤ البشر على خداع الله تعالى قال جلت قدرته: (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ).([30])  

وتتعدد سبل المقاومة الإنسانية لأهواء النفس من خلال ما يأتي:

١- تحقيق الخوف الصادق من الله تعالى، واتجاه الإنسان إلى لوم نفسه، وكبح شهواتها، والانتصار عليها، خاصة إذا كانت من النفوس الأمارة بالسوء ، وتتجلى دلالات ذلك في قول الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).([31])

٢- الثقة بالله تعالى، وعدم اليأس من رحمته، خاصة ممن جاء القول الكريم في شأنهم، فقال جلّت قدرته: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا).([32])

٣- قدرة المؤمن على تغيير ما يختزنه في باطنه، ويتمسك به ويتحمس له، فإن هذا التغيير من أهم مظاهر الانتصار على أهواء النفس، وإعادة تقويم الذات وإصلاحها؛ لتحديد مكانة الإنسان عند ربه بين إسباغ النعمة عليه، وحجبها عنه، وهذا ما يتضح في قول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).([33])

٤- استعداد الإنسان للتخلي عن الإعجاب الزائد بنفسه، وعبادة ذاته، ومفارقة شهواته، ذلك أن العصر الحاضر لم يعد فيه مثل ما كان في الجاهلية من عبادة للأحجار والنجوم، وإنما صار الأمر مختلفا، فأصبحت عبادة الهوى والمادة الفاعلة والنفوذ الطاغي هي الرغائب المحببة، وهي التي تجعل الإنسان عند السعي إليها في أدنى مراحل الضعف، وفقد الرؤية الصائبة، وعندما يتحقق له – ولو بعض المدركات منها – يتحول إلى طاغٍ ومغرور وضال وعابد لهواه، إلا من رحمه الله وعاد إلى الحق والصواب، وتزداد هذه المعاني وضوحا بقول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)([34])، ويصل هذا النموذج البشري العابد لذاته إلى استحالة وجود من يصلحه ويرده إلى الصواب، ويكون وكيلا عنه، وذلك بيان القرآن الكريم، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا).([35])

وينبغي مقاومة سائر الأهواء بشتى الوسائل الصادقة، والعودة إلى صحيح الإيمان واتباع أصول الشريعة الغراء، ومجانبة أهواء الضالين من البشر، الذين يجهلون أحكام الدين، وأبعاد السلوك، وتمام المنهج، أو يتغافلون عن كل ذلك، وقد جاء التوجيه للرسول ولسائر أمته مجتمعة باتباع سبل الشريعة الإسلامية قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).([36])

ولا تتوقف مقاومة أهواء النفس عند عدد محدد أو محدود من الأسباب، وإنما تتسع  لتشمل حتمية استقرار النفس وحفظها من الضعف والانهزام.

الانتصار على النفس:

ينبغي للمؤمن – دائما- أن يحاسب نفسه، ويراجع كل سلوكه، وأن ينظر إلى القادم الآتي ويستحضره، معتبراً بما كان، وأنه طريق إلى ما سوف يكون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)([37])، ونذكر موقفا واحدا من بين العديد من المواقف الإيمانية للصحابي الجليل (صهيب بن سِنان) المشهور بصهيب الرومي، هذا الذي كانت حياته نموذجا إيجابيا للمسلم القوي، الذي يضحي بالكثير إن لم يكن بجميع ما يملك في سبيل نصرة دينه، وحماية عقيدته، فقد باع نفسه في سبيل الله، وسجل القرآن الكريم عند  هجرته إلي المدينة بما لم يحدث للكثيرين، ونزل ما يخصه بشأن الانتصار على النفس، وقهر رغائبها وذلك قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)([38]).

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان، فإنه خرج مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ثم اتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته([39]) وأخذ قوسه وقال: "لقد علمتكم أني من أرماكم، وايم الله لا تصلون إليّ ، حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيئ، ثم افعلوا ما شئتم".

فقالوا: "لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل"([40])،  وتخلوا عنه واستكمل هجرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليه صلى الله عليه وسلم نزلت الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحيي وتلا عليه الآية، وقيل غير ذلك.

وقد أسر صهيب صغيرا، من منازل أهله بالعراق، وعاش في الروم، وانعكست لغتهم على لسانه، ثم كبر وعاد إلى مكة، وعمل بالتجارة ونمت ثروته، وكان من أوائل المسلمين بدار الأرقم وشهد المشاهد لها، وتوفي سنة ثمان وثلاثين من الهجرة.

إن انتصار الإنسان على أهواء نفسه يدفعه إلى حتمية التبصر بسلوكه في الدنيا، والتنبيه إلا ما يمكن أن يلحقه في الآخرة قال تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)([41])، وقد تكون هذه الآية آخر ما نزل من القرآن الكريم، وجاء البيان فيها إلى كينونة يوم القيامة، وما يتحقق فيه من محاسبة للنفس على ما كانت عليه بعدل ورحمة والله أعلم.  

دكتور/ السيد محمد الديب


[1] -  الإسراء 85.
[2] - الضمير على الأموال والأولاد.
[3] - التوبة 85.
[4] - الفجر 27.
[5] - النساء 29.
[6] - النور 61.
[7] - النحل 111.
[8] - الروح ص 398.
[9] - الفجر 27، 28، 29، 30.
[10] - الروح 416.
[11] - القرطبي جـ20، ص57.
[12] - انظر السابق، جـ20 ص58.
[13] - القيامة 2.
[14] - الروح ص 412.
[15] - انظر السابق ص 413.
[16] - يوسف 53، عن الروح لابن القيم ص413.
[17] - النساء 29.
[18] - رواه الأئمة الخمسة إلا الترمذي.
[19] - أورده الزمخشري في الكشاف – في تفسر سورة النساء آية 4.
[20] - روي يجأ بها أي يدفع بها.
[21] - مخرج في الصحيحين.
[22] - البخاري.
[23] - رواه البخاري ومسلم وغيرهما (اللفظ لمالك في الموطأ ص 565 – طبعة دار الشعب).
[24] - النجم 23.
[25] - المائدة 30.
[26] - النساء 128.
[27] - آل عمران 135.
[28] - الكهف 6، (باخع نفسك أي قالت نفسك لعدم إيمان قومك).
[29] -  فاطر 8.
[30] -  البقرة 9.
[31] -  النازعات 40، 41.
[32] -   الزمر 53.
[33] -  الأنفال 53
[34] -  الجاثية 23.
[35] -  الفرقان 23.
[36] -  الجاثية 18.
[37] -  الحشر 18.
[38] -  البقرة 207، ويشري نفسه أي يبيع نفسه.
[39] -  انتثل ما في كنانته: أي استخرج ما فيها من السهام، والكنانة: جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود فيها (تفسير القرطبي جـ3 ص20).
[40] -  تفسير القرطبي جـ3، ص20.
[41] -  البقرة 281.