كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة محاطةً بمدد إلهي، استمر في حراسته وإسباغ كرم الله تعالى وتجلياته عليه، إلى أن كان التكليف بالبعث الإسلامي منذ لحظة هبوط الوحي الكريم، وهو يحيا الزمن مع نفسه، خلال الخلوة التعبدية بغار في حضن الجبل، قريب من مكة، وتقلبت به صنائع الأيام وأحداث السنين دون أن تمسه بشائبة تجرح سيرته، التي بقيت مصانة تحت ظلال الإيواء الإلهي، الذي خوطب به صلى الله عليه وسلم في قابل الأيام، والحاصل في قول الله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ، ونعرض لأطراف من سيرته العطرة ومسيرته الخالدة.
1 - كفالة عمه أبي طالب
لم تَسِرْ حياة محمد عليه الصلاة والسلام في طفولته على نمط متواصل، إذ تلاحقت الهموم الثقال عليه، فقد ولد يتيماً وعاش في بواكير طفولته في ديار بني سعد رضيعاً، ثم بقى بعد الإرضاع سنتين نما فيهما عودُه، ورجع إلى أمه التي لم بهجتها به حيث تصعَّب اليتم بوفاتها، وعاش في حضانة جاريته بركة بنت ثعلبة تحت كفالة جده عبد المطلب، الذي كان محمد لديه ملء السمع والبصر، ومناط المحبة والتقدير، وتواصل الراحلون من حوله فتوارى الجَدُّ بالموت ومحمد عليه الصلاة والسلام ابن ثمانية أعوام، وكانت وصاية عبد المطلب لأبي طالب بكفالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لماذا كان أبو طالب محلاً لهذه الثقة مع أنه لم يكن أكبر إخوته سناً ولا أكثرهم مالاً؟
كان أبوطالب قليل المال كثير العيال، وقد غرس الله سبحانه وتعالى في قلبه محبة وعطفاً وإحساناً إلى ابن أخيه، ولم يصل إلى ذلك أحد من الأعمام سواه، وكان عماً شقيقاً للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أن عبدالله وأباطالب أخوان لأب وأم، وتدعم ذلك بما روته كتب السيرة والتاريخ: فجاء في البداية والنهاية لابن كثير، نقلاً عن بعض الرواة قالوا: "لما توفى عبدالمطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصَبَّ به أبوطالب صبابة لم يَصِبْ مثلها بشيء قط(2)، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا"(3) فضلاً عن الإحساس والميل القلبي الذي استقر في أعماق محمد صلى الله عليه وسلم تجاه عمه، فقد جمع الحب بينهما رغم اختلاف الأعمار والأسباب، وجاء في كتاب "حياة محمد" ما يلي: "وقد أحب أبو طالب ابن أخيه كحب عبدالمطلب له، أحبّه حتى كان يقدمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده به تعلقاً"(4).
لقد سجلت صحائف التاريخ ما يؤكد عمق التلاصق القلبي بين محمد وعمه أبي طالب خلال مسيرة الأيام، التي شهدت بكرم أبي طالب ومساندته لابن أخيه في أحداث مطوّلة، بدءا من اصطحابه في رحلة تجارية إلى الشام، كما أعانه على العمل في حقبة من صباه أو بواكير شبابه على رَعي الغنم، لاكتساب قوته بنفسه، وتواصلت المحبة حتى موت أبي طالب في عام الحزن قبل حادث الإسراء والمعراج.
2- رحلة محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام
كانت رغائب محمد صلى الله عليه وسلم في المعرفة غير محصورة داخل الدائرة الضيقة التي يرتادها بمنازل أعمامه وسائر أقاربه، وأمكنة تلاقيهم، وكانت أبصاره ترقب الواردين إلى مكة والمنصرفين منها والعابرين بها، وقد أراد أبو طالب أن يخرج مع قافلة قريش الذاهبة إلى الشام للتجارة، عندما كان عُمْر محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر سنة أو ثلاث عشرة، ولعلها كانت المحاولة الأولى التي يغيب فيها بصره عن مشاهدة ابن أخيه، الذي تعلق به أكثر من تعلقه بأبنائه، فكانت النية متجهة إلى مفارقته وعدم اصطحابه؛ خوفاً عليه من وعثاء السفر، واجتياز مسالك الصحراء بالليل والنهار، ولكن ذلك لم يُرض محمداً، فهو ليس راغباً في مفارقة عمه له، وهو يشعر باحتياج إلى التعرف على أحوال التجارة في الشام، وكيفية الذهاب والإياب والنزول في أماكن الاستبدال بيعاً وشراء، إضافة إلى ما يمكن أن تكسبه الرحلة من تجارب وخبرات خلال البلدان وطرق الصحراء، التي يكون المرور فيها أو النزول للاستراحة بها.
وخرجت القافلة من مكة المكرمة متجهة صوب الشام، قاطعة الفيافي بالليل والنهار في مسالك يعرفها القائمون بها، إلى أن تجاوزت بلاد العرب، ودخلت في أرض الشام، وعندما كان الوصول إلى "بُصْرى"(5) للراحة بعض الوقت، وقضاء المتطلبات التي تعين على مواصلة المسير، وتحقيق ما سعت القافلة إليه.
وقد برز من بين الأحداث ظهور الراهب "بَحِيرى" وتفرسه لمن بالرحلة، وعلمه بوجود محمد صلى الله عليه وسلم بينهم، والتقائه بأبي طالب والتحاور معه، وصولاً إلى تعرف هذا الراهب على بعض الدلالات، التي يمكن أن ترشد إلى نبوة محمد، التي لم تغفلها كتب اليهود والنصارى، خاصة أن القرآن الكريم قد نبه إلى أن أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة والإنجيل، والتي لابد أنها كانت متاحة "لبَحِيرى" ومن على طريقته من الأحبار والرهبان العرب، الذين يعيشون في مواطنهم بالجزيرة العربية، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ.....
قال القرطبي عما وصل بسنده إلى عبدالله بن عمرو بن العاص الذي قيل له: "أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، ولله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيناً عُميا، وآذاناً صُمّا، وقلوباً غُلْفا"(8).
ولا شك في أن هذه الرحلة التجارية قد تحققت(9) وأفادت الرسول كثيراً، ولكن الشكوك قد حامت حول ما لحق بها، أو أضيف إليها من روايات عمقت الارتياب في كثير مما ذكر منسوباً إلى بحيرى، لكن قصة هذا الراهب ثابتة في كثير من كتب السير والتاريخ الإسلامي، وأبرز ما تمخضت عنها ما جاء على لسان بحيرى، وذلك قوله لأبي طالب بحق ابن أخيه، بعد أن سأله عن أصله وتمام وضعه قال: "ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لَيبغنَّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام"(10).
وسواء أكانت عودة عبدالمطلب بعد الفراغ من تجارته أو قبل الانتهاء منها فإن العودة كانت في سرعة غير معتادة.
وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد في حديث بَحيرى لأبي طالب ما يوجب الحفاظ على ابن أخيه، وعدم التوغل به في بلاد الشام؛ لأن اليهود حُسَّدٌ وهو يخشاهم عليه(11).
وبقى محمد صلى الله عليه وسلم في رعاية عمه، دون أن تترك هذه الأحداث في نفسه آثراً، كما أن كلمات بَحيرى صارت لديه بمثابة ألغاز أو أسرار، لم تنكشف له أبعادها ولا الدوافع منها في هذه المرحلة من حياته، التي عاش فيها ببيت عمه مع أولاده حتى مرحلة جديدة من حياته.
وأبرز ما عاد إلى محمد صلى الله عليه وسلم من رحلته إلى الشام أنه تعرف على مسالك الصحراء، وطرق الوصول إلى أماكن البيع والشراء، وذلك ما استثمره بأمانة وكفاءة عند العمل بالتجارة في أموال السيدة خديجة بنت خويلد، والتي ارتحل فيها إلى الشام أيضاً، واصطحب فيها غلاماً لخديجة هو ميسرة الذي التقى به راهب آخر هو "نَسْطور" في "بُصْرى" وحدّثه عن دلالات النبوة في محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك حديث آخر.
3- رعاية الأغنام
كان رعي الأغنام مهنة للكثيرين من أهل مكة، الذين يحيَوْن على كثير من منتجاتها من الألبان والأصواف واللحوم، وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حَصّل بعض المعارف من التجارة خارج وطنه، فإنه بعد أن صار قادراً على الاعتماد على نفسه كان الاختيار للعمل في رعاية الأغنام، وفق خصائص البيئة في مكة المكرمة، إذ قام برعي عدد منها يروح ويغدو بها بعد تمام مهمته، وقد رغبت جماعة من أهل مكة أن يرعى أغناماً لهم، فضمها إلى أغنام عمه وهو في مهنته، تلك مثال للراعي الأمين، الذي يرحم الحيوان ولا يؤذيه، إذ أنه صلى الله عليه وسلم كان في صباه وأول شبابه مختلفاً عمن يضارعونه في السن بما يمكن أن يكون إعداداً إلهياً غير مدرك له ولغيره لما سيكون له في مستقبل الأيام.
"إن الحياة في الصحراء والعمل بالرعي يولدان شعوراً خاصاً عند الإنسان الذي ليس به تميز وتفرد، فما الحال إذا كان هذا الإنسان محمداً، الذي ولد يتيماً ومال إلى الهدوء والتأمل، وعَزَف عن ميوعة الصبا ولهو الشباب"(12)، وإن الرعاية للأغنام والحفاظ عليها، ومعالجة المريض منها، وإشباع جائعها، وتأمين سلامتها من الذئاب والوحوش، كل ذلك لا يصدر إلا من قلب رحيم، وقد أحب محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال عنه في قابل الأيام ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"(13).
وقد صور الدكتور/ محمد حسين هيكل كل هذه المشاهد والأحاسيس فقال: "وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته، حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضل إحداها في مَهَامِه البادية، فأي انتباه وأية قوة تحفظ على نظام العالم كل أحكامه! وهذا التفكير والتأمل من شأنهما صرف صاحبهما عن التفكير في شهوات الإنسان الدنيا، والسمو به عنها بما يبديان له كاذب زخرفها"(14).
ونعتقد أن راعي الغنم في شبه عزلة مع نفسه، بعيداً –في أغلب وقته- عن أحاديث البشر، فهو يحيا شبه وحيد، وربما مع زميل له يشاركه فيما يقوم به، لكنه على الإجمال أمامه الكثير من الوقت، الذي يُبيح له أن يمعن التفكير في كل ما حوله من سماء وأرض وحيوان وجفاف واخضرار، ورغبة في الوجود وخوف من الفناء، وجاء ذلك وغيره استهلالا أو إرهاصاً لمرحلة تالية كان التأمل فيها طويلاً وعميقاً بغار حراء، وبقى الرسول صلى الله عليه وسلم مع رعي الأغنام ورعايتها إلى أن انصرف عنها لمتطلبات مرحلة جديدة في شبابه، عمل فيها بالتجارة في أموال السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.Addeeb@hotmail.com
(1) الضحى 6.
(2) وصَبَ وصباً، وصَبَّ إليه وبه صبابة، وصَبا إليه يصبو، ورجل صبٌّ: مشتاق.
(3) البداية والنهاية لابن كثير، ج2، ص282، مطبعة السعادة، 1351هـ، 1933م.
(4) حياة محمد، للدكتور/ محمد حسين هيكل، ص131، طبع دار المعارف بمصر.
(5) ذكر ياقوت الحموي أن بُصْرى من أعمال دمشق، وهي مشهورة عند العرب قديماً وحديثاً "معجم البلدان، ج1، ص441".
(6) الأعراف 157.
(7) الأحزاب 45.
(8) الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص299، طبع دار الكتاب العربي، 1377هـ، 1967م.
(9) أخرجها الترمذي في صحيحه، ج4، ص496، من حيث أبي موسى الأشعري "تعليق الشيخ الألباني بهامش كتاب فقه السيرة لمحمد العزالي ص66، طبع دار القلم بدمشق".
(10) البداية والنهاية لابن كثير ج2، ص284.
(11) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد، ج1، ص170، 171، تحقيق أ.د/ حمزة النشرني، وآخرَين.
(12) قطوف من السيرة والدعوة لكاتب هذا المقال ص47، طبع عام 2006م.
(13) رواه البخاري، والمقصود من قوله على قراريط أي بعطاء قليل.
(14) حياة محمد، ص135.