تتجلى رغائب الإنسان في الاقتراب من الله تعالى؛ طلباً لمغفرة وسعياً لمكرمة، وثناء على لله، وتوحيداً له سبحانه، ويكون ذلك في سائر العبادات والتعاملات بشتى ضروبها وأشكال أدائها بما يحيا الإنسان معها في حالة اقتراب شفيف، يؤهله لأن يناجي الله ويتضرع إليه بالدعاء الصادق والإيمان العميق.
الابتهال:
هو التضرع والاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه لله عزّ وجل، ويكون من المسلم في خلوته وجلوته، وفي عمله وعبادته، وفي سرِّه وجهره، بما يشاء له من الأدعية القرآنية والمأثورات النبوية، مع الثقة المؤكَّدة بذات الله تعالى ودعوته، وطلب العفو والرحمة، والحدّ من سيطرة رغائب الدنيا وإغراءاتها، وجاء الأمر الإلهي لذلك بالعديد من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وتصحبُ المسلم في دعائه الرغبةُ في القبول والرهبة من الصدود، وتعرض آيتان من سورة الأعراف لبعض ما يصاحب التضرع والدعاء والتسبيح والاستغفار من آداب، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي يكون الدعاء خضوعاً وخشوعاً، وفي خفاء، ليكون أجدر بالقبول وأبعد عن الرياء، وقال تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ، فالمراد من الخِيفة: الخوف من الله أن يرد الدعاء، كما يكون مصحوباً بالخوف من عذابه، والطمع في رحمته في كل الأوقات مع العبادة بأول النهار وآخره، وفي الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة"([4]).
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شرّ"([5]).
ويكون الابتهال الديني تضرعاً إلى الله تعالى بصورة انفرادية يخلو فيها المسلم مع نفسه أو مع غيره، كما يكون بطريقة إنشادية مسموعة للغة أدبية، تشع روحانية تستحوذ على إعجاب المستمعين بما فيها من دعاء وابتهال معبأ بالإخلاص لله تعالى، هذا الذي دخل الكثير من نماذجه ساحة الأدب العربي، لما فيها من صدق وبلاغة وتسبيح واستغفار وصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم([6]).
وقد عرض العلاّمة "أحمد أمين" لما أسماه "أدب الابتهال" وذكر أن معناه في اللغة التضرع والاجتهاد في الدعاء والإخلاص لله فيه، ثم قال:
"ومن ثمّ استمدّ روحانيته وقوته من موقف المبتهل، حيث يتحرر من شؤون الحياة الدنيا وأعراضها ومشاكلها ومشاغلها، ويتضرع إلى ربه، ويناجيه، ويسمو عن المادة وحقارتها فكان بذلك أدب روح لا أدب مادة"([7]).
ومن بين ما اختاره من ابتهالات النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
واختار عدة نماذج ابتهالية، غاية في الجودة والقوة لأبي حيان التوحيدي منها قوله: "اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بلائك، وأسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمتك شعاري ودِثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري"([8]).
المباهلة
أصل الابتهال --في اللغة- الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، "ثم استعمل في كل دعاء يُجتهد فيه، إن لم يكن التعانا"([9])، ومنه "المباهلة" أي الملاعنة، فباهلَ القوم بعضهم بعضاً تلاعنوا، ونتباهل بأن يقول كل واحد من المتباهلين: بَهْلَةُ الله على الكاذب منا ومنكم، والبَُهلة: دعاء باللعنة.
وقد ورد الفعل "نبتهل" في القرآن الكريم مرة واحدة مرتبطاً بالمحاجة مع وفد نجران، عندما وفدوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن بعث إليهم برسالة يدعوهم فيها إلى الإسلام، كشأن غيرهم من الأمراء والرؤساء والملوك بأطراف الجزيرة العربية وخارجها.
وكان الوفد النجراني من ستين راكباً أو اثنين أو ثلاثة أو غير ذلك، وممن يتولى أمرهم "العاقب" وكان أمير القوم، وأبو حارثة بن علقمة الذي كان أسقُفَهم وحَبْرَهم.
وقد نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم آية بسورة آل عمران تضع إطاراً للحوار مع الآخرين على العموم، وتم تفعيلها مع وفد نجران، قبل أن يعتنقوا الإسلام، ووفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ للتعرف على دينه الجديد، وكان أن استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الحجة في إقناعهم بما يعطي النموذج الرائع لأسس الحوار بشأن الأمور المختلف فيها.
وتقول الآية التي نزلت بشأنهم: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.
والمعنى: فمن حاجك من هؤلاء بعدما جاءك من البينات الموجبة للعلم، فادعهم للمجيئ للمباهلة، بحيث يدعو كل فريق أبناءه ونساءه ونفسه، وبأن يقول كل من الفريقين: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم، وذلك دعاء باللعن والبعد من رحمة الله، وأبَي "العاقبُ" وكان صاحب الرأي فيهم المباهلة، خوفاً من نتائجها عليهم، وذلك أثناء المهلة التي طلبوها للتشاور فيها، وخلال ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً الحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليٌّ خلفهما، وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا"، وبعد ذلك قال أسقف نجران لمن معه من الوفد: "يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة"([11])، وكان ذلك بعد أن حاججهم الرسول... وعرض الإسلام عليهم فأبوا، فضلاً عن رفضهم للمباهلة، ثم دعاهم إلى المناجزة، "القتال" فأعلنوا عجزهم وعدم طاقتهم، ثم تصالحوا على قبول الجزية وفق ما اقترحوه في قولهم: "نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا، ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صَفَر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك"([12]).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم أن الله تعالى أمره بأن يباهلهم إن لم يقبلوا حجته؛ ليبين لهم --وفق المحاجة- الكاذب منه أو منهم، بصورة مؤكدة اصطحب فيها بعضاً من أهل بيته مع تقديم ذكرهم على النفس؛ لبيان لطف مكانهم وقرب منزلتهم، ولم يُسلم رجال الوفد النجراني؛ احتفاظاً بمكانتهم عند قومهم، لما كانوا يتمتعون به من عز وجاه وسلطان، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم رجلاً من أصحابه، واقترحوه؛ ليقضي بينهم بالحق وكان أبو عبيدة بن الجراح هو المختار لذلك.
فالدعاء الصادق استشراف لعلاقة تواصلية بذات الله العليا، وهو على العموم سلاح رامز لقوة الإيمان وتأصيل العقيدة في نفس المسلم، الذي يتضرع ويبتهل به ابتهالاً، داعياً لنفسه ولغيره بلغة وعبارات تمثل الرجاء، وتهدف إلى العفو والقبول.
وهو سلاح حماية وستر وصيانة يبتهل المسلم به مباهلة يضعف خَصْمُه أمامها فيتهاوى منكسراً، ومتراجعاً؛ لضعف حجته، وفساد رؤيته بأسهل وسيلة، من أيسر طريق، وتلك هي بعض ثمار الابتهال بكافة أحواله وشتى أساليبه؛ إعلاناً عن استغاثة المؤمن بربه، وقبولاً من الله لعبده سبحانه وتعالى إنه سميع الدعاء وهو على كل شيئ قدير.
دكتور/ السيد محمد الديب
sayed.addeeb@hotmail.com
([1] ) غافر 60.
([2] ) الأعراف 55.
([3] ) الأعراف 205.
([4] ) رواه أبو داوود والترمذي، وقال: حسن صحيح.
([5] ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
([6] ) قدم الدكتور/ عبدالباقي طلبه محمد ، أطروحة جامعية بعنوان "فن الابتهال في الأدب العربي" نال بها درجة الدكتوراة في الأدب والنقد من جامعة الأزهر عام 1983م.
([7] ) فيض الخاطر، ج4، ص246.
([8] ) السابق ص248.
([9] ) الكشاف للزمخشري ج1، ص434.
([10] ) آل عمران 61.
([11] ) تفسير الكشاف، ج1، ص434.
([12] ) السابق، ج1، ص434.