قدّم الإسلامُ أساساً راسخا ومنهاجاً قويما للعلاقة بين الأجيال، وفق متغيرات الأيام والسنين، التي يتداولها الناس، وقد لا ينتبه الكثيرون لذلك، ويغفلون عن حقوق كبار السن من التقدير والتوقير والرعاية التي يستحقونها من الأهل والأبناء، وسائر الأقارب بل ومن الناس جميعاً.
وأكثر الكبار كانوا يملؤون الحياة حركة ونشاطا، وعبادة لله تعالى، وإفادة لسائر الخلائق، ولا يليق بعد أن ألمّ الضعف بهم أن يحدث التجاهُلُ لهم والإنكار لحقوقهم، بل ربما وصل الأمر إلى الإساءة والتطاول وعدم الوفاء، خاصة من الشباب الذين يتحتم عليهم أن يوقروا هؤلاء الأكابر بالكلمة الطيبة، وسائر وجوه المعاملات الحسنة، حتى تنمو العلاقة بين كل الأعمار على المودة والرحمة والتعاطف الرشيد.
والوقار: صفة مستحقة لله تعالى، ينهض المؤمنون بالإقرار بها، وتفعيلها، وإجلال الله تعالى بمقتضاها، فقال سبحانه في هذا الشأن: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)([1])، وشدد القرآن الكريم على من لا يلتزمون بحق الله تعالى في ذلك فقال في شأنهم: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا).([2])
والوقار في حق البشر: الحلم والرزانة، وهو وصف يكون في الشخص، ويحدث في حقه من الآخرين بمستويات مختلفة، حسب سلوكه ودرجة استحقاقه لهذا الخلق.
والتوقير: التعظيم والترزين، وكان استحقاق النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ثابتا ومطبقا بين الصفوة من أصحابه، وبحق هذا الوصف روى خارجة بن زيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكادُ يُخرِج شيئاً من أطرافه".([3])
توقير كبار السن:
يجب الإقرار بقيمة كبير السن؛ لحقه في الحياة، ولتقدير ذلك عند الله تعالى، إضافة لما قدمه طوال حياته من عطاء وسعي وحركة في دروب الحياة، أفاد بها أبناءه وأحفاده وقطاعات أخرى من المجتمع، ولتميزه بسعة الخبرة وعظيم الحكمة مما يستدعي الحرص عليه، وعدم التخلي عنه، فقد روي أبو بكرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله: أي الناس خير؟ قال: "من طال عُمره وحسُن عمله" قال: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عُمره وساء عمله".([4])
وأقرَّ الشرعُ الحكيم لكبير السن التخفيف في كثير من العبادات، والتقديم على غيره في شؤون أخرى، فعن ابن مسعود – عطية بن عمرو – البدري الأنصاري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمُهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً"([5])، ذلك أن الواجب والتقدير الذي يستحقه كبير السن لا يُنظر فيه – في المقام الأول – إلى مقدار ما قدمه في شبابه، أو مجموع فعله في شيخوخته، وإنما يكون ما يوجه إليه من باب الرحمة والتعاطف وعدم القسوة والإساءة، إذ أن هذا السلوك السلبي يأتي بنتائج سيئة؛ لأنها بحق شخص ضعيف أو عاجز عن القيام بأمور نفسه، مع أن الاحترام والتوقير ينبغي أن يكون مجردا من أية اسباب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم"([6])، وعن أبي أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط".([7])
توقير الصغير للكبير:
يخضع بيان الصغير والكبير لمجموع سنوات الحياة المعاشة، واعتبارات أخرى كثيرة، لكن الدعوة للصغير أن يوقر الكبير تنصرف إلى الشباب القادرين على العطاء، وصغار السن المكلفين، فهؤلاء جميعهم المعنيون بالتوقير لكبار السن، الذين يعجزون عن القيام بكل شؤونهم بما فيها العبادة وتحصيل الرزق، وممارسة سائر متطلبات الحياة، وهذا ما يجب إقراره بالقول وبالفعل، وبحيث يكون التعاطف بدرجات مستحقة لكل إنسان، انطلاقا من الفهم العميق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم صغيرنا، ويعرف حقَّ كبيرنا فليس منَّا"([8])، فمعرفة حق الكبير – بخاصة – طريق إلى التوقير، وما يتبعه من سلوكيات مهذبة، كما يقترب من الحديث السابق ما رواه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحمْ صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر([9])، ويكون توقير الكبير دون نظر إلى جنسه أو دينه ومقدار سنه ما دام كبيرا على من يوقره، فالشخص يكون كبيرا ومكبورا عليه في الوقت نفسه.
فعلى الإنسان أن يحسن توقير الأكبر منه، ويكون محلا لذلك عند الأصغر منه، دون ورود للعطف والتعاطف في هذا الشأن، ولابد من الانتباه إلى حقيقة قد يحدث التغافل عنها، وهي أن الشاب قد يغتر بالحياة، وينسى ما يحدث في عمر البشر من متغيرات، إذ يجب عليه التذكر أن الفتى القوي سيكون في قابل أيامه شيخا هرما، وعندها سينال نواتج ما سبق أن قدمه، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه إلا قَيَّضَ الله من يكرمه عند سنّه".([10])
إن توقير الصغير للكبير – وإن كان الفارق بينهما يوما واحدا - قيمة إسلامية عظيمة، وهي ليست تقليدا متبادلاً لأحداث سابقة، ولكنها سلوك راق يجب أن يُؤدَّى بسماحة نفس، وطيب خاطر، وابتعاد عن تظاهر أجوف لا قيمة له، فالتوقير يكون حقا للشخص، كما يكون واجباً عليه.
ويُنَّزل الأخ الكبير منزلة الوالد في استحقاق التوقير والتقدير، فعن سعيد بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده"([11])، وجاء البيان في هذا الحديث بإثبات الحق في التوقير من صغير الأخوة إلى كبيرهم، الذي يقترب أو يتساوى في هذا الحق مع الوالد، وإن كان الحادث في واقع الحياة يكشف عن إساءة وتطاول من الصغير بما ينذر بتصدع في جدار العلاقة بين الأجيال.
لقد أحكمت النصوص الشرعية ميزان العلاقة بين الصغير والكبير، ووجوب التوقير من الأول للثاني بصورة عامة، تراعى في كل الأزمنة والأمكنة باعتبارات متعددة، وينبغي أن يحدث هذا في مجالس العلم والمخاطبة بين الناس، وأثناء السير في الطريق، وعند الاستقبال، وإلقاء التحية والسلام، وعند الجلوس للطعام، والصعود للركوب، وغير ذلك.
إن توقير الصغير للكبير خلق إسلامي عظيم، يجب تفعيله بالصورة التي تحفظ للكبير حقه دون تفريق بسبب الدين، أو بين واحد من أبناء الوطن وسواه من أهل الأوطان الأخرى، ثم إن هذا الخلق إقرار بحتمية التقريب بين الأعمار والجنسيات والأنواع، تأسيسا وتأكيداً لنشر المحبة وزيادة الألفة والرحمة والمساواة.
د/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com
([1]) الفتح 9.
([2]) نوح 13.
([3]) رواه أبو داوود.
([4]) رواه البيهقي وآخرون.
([5]) رواه مسلم والطبراني وابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود.
([6]) رواه مسلم، وذكره الحاكم وقال حديث صحيح.
([7]) رواه الطبراني.
([8]) رواه البخاري وأبو داود.
([9]) رواه أحمد والترمذي.
([10]) رواه الترمذي.
([11]) رواه البيهقي والطبراني.