صار الإسراف في العصر الحديث أشد ضررا، وأكثر خطورة عما قبل، فالعالم الآن تجتاحه موجة من الغلاء، والناس يتزاحمون على موارد الثروة، حتى سمعنا عن الرجل يقتل أخاه أو قريبه من أجل القليل من المال، ثم ينفق ويتباهى بما تحت يديه في غير أوجهه الصحيحة، ابتغاء شهرة طاغية أو تظاهر أجوف.
إن الإسراف مضرة كبيرة، وخلق سيئ، وهو غالبا ما يتجاوز حدود المسرف المبذر ليحيط دائرة الأفراد العاديين، أو متوسطي الحال بيأس وإحباط شديد، خاصة عندما يرى الواحد منهم غيره من المبذرين وهو ينفق من غير حساب، كأنه مكلف بتبديد ما بين يديه من نعم وأموال.
والإسراف الذي نهى الله عنه: هو كل ما أنفق في غير طاعة الله قليلا أو كثيرا، وهو يمتد ليشمل كل مجاوزة للحد في الأمور كلها، وليس معنى النهي عن الإسراف أننا ندعو إلى التقتير، ليس ذلك وارداً فكلاهما شر مبين، لذا كان التوسط خيرا، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)([1])، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)([2])، ومعنى لم يسرفوا" أي لم يضعوه في غير موضعه، ولم يقتروا أي لم يقصروا به عن حقه، و "قواما" أي وسطا.
ولقد جاء النهي عن الإسراف صريحا واضحا في كتاب الله تعالى، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجعل هذا السلوك انحرافا عما أمر به الإسلام، ذلك لأن الإسراف ضعف في السلوك وتخبط في الإرادة، وميل عن الجادة واعوجاج عن حركة الحياة، ولنقرأ قول الله تبارك وتعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ([3])، وبعد تدبر هذه الآية والوقوف عندها طويلا نرى أن الإسراف المنهي عنه يشمل الإسراف في الأكل والشرب وغيرهما من الأمور، التي تتصل بهما كالمسكن والملبس والشهوة والعمل والكسل والمعاصي مثل القتل والكذب إلى غير ذلك من الأمور، التي تتصل بالإنسان في حياته ومعاشه.
والإسراف في الانفاق هو المقصود من التبذير المنهي عنه في قول الله تعالى (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)([4])، ويمتد الإسراف إلى الأكل الكثير وإعداد الولائم الكبيرة، والتي يضيع معظمها هباء عندما يلقى في صناديق القمامة، أو يترك في العراء ليتعفن ويتدود من تلقاء نفسه، ثم إن كثيرا من الناس ينقادون لشهوة الأكل فتتجمع الدهون في أجسامهم، وتترهل أبدانهم، ويصابون بداء الكسل، ويكون ذلك على حساب الدين والدنيا، فيهملون العبادة، ويقعدون عن العمل ناسين أو متناسين أن الشراهة تصيب البدن بالأمراض والعلل، ولا تخدم الجسم بحال من الأحوال، ولنأخذ الأسوة من أقوال الرسول وافعاله، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"([5]).
إن من تعاليم ديننا حسن المظهر والعناية بالأبدان، والاستفادة بمتع الحياة، ورب العزة سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كما أن المساجد أحق الأماكن بالتزين عندها، كما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)([6])، ثم ان هناك من الأيام والمناسبات ما يليق بالمسلم أن يتزين فيها ويتطيب لها، ولكن الإسراف في استعمال هذه الزينة والمغالاة فيها كما وكيفا أمر لا يتفق مع الإسلام في شيء، ويمتد الإسراف في المظهر ليشمل الانفاق الباهظ على إعداد المساكن، واستيراد الملابس الغالية الثمن، بل إن بعض الناس عندما يذهبون لشراء ملابسهم يسألون عن أسعارها أولا، فإذا كان السعر غاليا ومرتفعا دفعوا الثمن عن طيب خاطر بصرف النظر عن جودة السلعة أو رداءتها، وعلى كل فالاعتدال أمر محمود، والتوسط شيمة من شيم هذه الأمة.
ومن صور الإسراف وأضراره أن يسرف الإنسان في العمل، ولا يبالي براحة الجسم، ويغمط نفسه حقها من الراحة والهدوء، ومن الطبيعي أن يستريح الإنسان في إجازته الاسبوعية أو السنوية، ويجدد فيها نشاطه، ويعطى بدنه حقه من النوم والراحة، لكنه إذا أسرف في عمله، فسوف يقلل بذلك من مستوى إنتاجه، وتكون النتيجة المحتملة هي التوقف التام عن العمل أو أداؤه على وضع هزيل.
ومن الكراهية أن يلجأ المسلم إلى الإسراف في الماء الذي نتوضأ به، ونستعمله في حياتنا، ولابد من المحافظة عليه بالطرق المختلفة، إذ كيف نسمح لأنفسنا بترك صنابير المياه للأطفال يعبثون بها، أو يسرفون في استعمال الماء من غير وعي وإدراك.
فالدولة تتكلف المبالغ الطائلة في سبيل تنقيته وتطهيره وتقديمه للمواطنين، وأولى بنا أن نحافظ عليه، ونقتصد في استعماله، ولقد جعل الله الماء حياة للأحياء، وفي الوضوء أقصى غسل للعضو ثلاث مرات.
كما أن قضية المغالاة في المهور قد أخذت قدرا كبيرا من حديث الناس، ولا يغيب عن ذهن المسلم أن تلك المغالاتَْ لا تتوافق بحال من الأحوال مع يسر الإسلام وسماحته، حتى صار ارتفاع المهر وتكاليف الزواج من شبكة وولائم وغيرها من الأمور الخطيرة، فهي تصرف الشباب المسلم عن الزواج في كثير من بلدان المسلمين، وأولى بنا أن نعترف بذلك صراحة، ونتمسك بجوهر الإسلام وروحه، ولعلنا لا ننسى موقف عمر رضي الله عنه وإعراضه عن كراهيته للمغالات في المهور، وقد كان بصدد تحديدها بمقدار معين، غير أنه عورض من امرأة مما جعله يقر لها بالصواب في شجاعة لا تباري.
وقد يسرف بعض العصاة في اقترافهم للذنوب، ويزدادون بُعدا عن الله، واقترابا من الشيطان وينسون أن الله تواب رحيم، ويغفلون عن قول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).([7])
والإسراف في الذنوب والمعاصي أخطر أنواع الإسراف، لأن الإنسان يعصي الله ويمعن في عصيانه، ثم يسيء إلى نفسه، فيكون عبدا ذليلا لها.
وأقرب مثال لهذا النوع من الإسراف هو تدخين السجاير وما على شاكلتها، وهل هناك أخطر على الإنسان من إهدار الصحة التي وهبها الله إياه، وهي أمانة ونعمة، وتاج على الرؤوس وأولي بنا أن نحافظ عليها، وألا نتلفها بالتدخين وغيره من المضار والأوباء، كما أن الإسراف في المدح والثناء مضرة كبيرة وشر مستطير، وغالبا ما يؤدى إلى نتائج سيئة، خاصة إذا زادت ثقة الممدوح بنفسه، أو تعالى على خلق الله، أو انهار أمام الآخرين، وعند ذلك يركبه الكبر والغرور والتعالي، وكلها صفات ذميمة لا تتفق مع الإسلام.
والإسراف في الأمل والطموح يصير خطرا كبيرا إذا قلت إمكانات الإنسان، ونقصت بمعيار كبير عن آماله وتطلعاته، فلابد أن يوازن المرء بين ما يستطيعه وما يطمح إليه ويفكر فيه.
فلنعد إلى الله بتصحيح أخطائنا والسمو بأنفسنا عن كل الصغائر، ولننظر إلى الأمام في ثقة واعتدال، مع الاعتصام بكتاب الله تعالى والتمسك بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ([8])
د/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com
([1]) البقرة 143.
([2]) الفرقان 67
([3]) الأعراف 31.
([4]) الإسراء 27
([5]) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي حديث حسن، وحكم عليه الألباني بالصحة.
([6]) الأعراف 31.
([7]) الزمر 53.
([8]) آل عمران 147.