ذكر الرسول صلي الله عليه وسلم تمكنه من اللغة العربية، وصياغته لها، وتعبيره عنها بما يخدم رسالته في التبليغ، وقيادته للأمة من خلال التعامل مع الأفراد والجماعات في شؤون الدنيا والدين، وجاء ذلك بصياغات محكمة وأداء يختلف من وقت لآخر، كما يختلف بين مكان، وآخر من حيث مطابقة كلامه لمقتضي الحال، وذلك شأن الفصاحة والبلاغة التى وصف الرسول صلي الله عليه وسلم نفسه بها في العديد من الأحاديث، التى لا ينطق فيها عن الهوي، وإنما يعبر بها عن إنسانيته ورسالته إلي الأمة، التى تتشكل من كيانات مختلفة، ففيها الشاعر الحكيم، والمثقف البليغ، والأمي البسيط، هؤلاء الذين خوطبوا جميعا من رسول الله صلي الله عليه وسلم بما يتوافق مع أحوالهم التى يعيشون خلالها متعاملين باللغة العربية الصحيحة التى سمعوها متداولة علي ألسنة الناس في قريش، وفي غيرها من القبائل، التى تختلف عن بعضها من حيث المفردات والتراكيب، ولكنها تتساوي في الأصول العامة المتوارثة.

وقد تميز الرسول منذ ولادته وطوال مسيرة حياته بما أهله لاستقبال الوحي الكريم، وتبليغه بأمر الله تعالي إلي أمته، تطبيقا لقول الله تعالي :" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ" (1) وجاء هذا التبليغ منضبطا ومحافظا علي الوحي الكريم، الذي لم يزد فيه الرسول شيئا من عند نفسه، وأما ما كان له من أمر الدعوة فقد تمثل في الأحاديث النبوية الصحيحة سندا ومتنا.

والسنة: هي كل قول أو فعل أو تقرير أوصفة لرسول الله صلي عليه وسلم، والمقصود من تجليات الفصاحة عنده: ما تمثل في أقواله، التى ثبت حديثه بها ثبوتا صحيحا، وخضعت هذه الأحاديث لمناهج التوثيق والتدقيق والفحص، وهي في جملتها يختلف بعضها عن بعض، خضوعا للزمان والمكان، إذ أن مستويات الخطاب النبوي متعددة علي مدار ثلاثة وعشرين عاما منذ بدء بعثته إلي وفاته.

ورأي أكثر العلماء – إن لم يكن جلُّهم – أن الحديث النبوي الذي يُعد العمدة في بيان الفصاحة النبوية لم يدون في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، ولا حتى في عهد أصحابه، وإنما بدأ تدوينه بعد انقضاء القرن الهجري الأول.

وجاء النهي عن تدوين الأحاديث ثابتا وصريحا في صحيحي البخاري ومسلم، بما يؤكد رؤية الرسول عن خوفه علي القرآن الكريم من أن يختلط به كلام آخر، أو يضيع منه أو يبدل فيه عن غفلة، أو عن عمد، لدوافع قد تكون مختلفة، ولأن خصوم الرسول بل وأعداءه كذلك لم يكونوا سعداء بوحي إلهي ينزل عليه، تقوي به حجته في الرسالة إلي الوضع الذي يتميز به عليهم فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : لا تكتبوا عني شيئا سوي القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا بلا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" (2).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن نكتب الأحاديث فقال: ما هذا الذي تكتبونه؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك، فقال: أكتاب غير كتاب الله، أتدرون ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله؟

قلنا: أنحدث عنك يا رسول الله؟ (أي حديثا شفويا غير مكتوب) فقال : حدثوا عني ولا حرج، ومن يكذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (3)

وقد دعم الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله – هذه الرؤيا متسائلا عن مصير خطب الجمعة للرسول صلي الله عليه وسلم بالمدينة، التى أداها خلال عشر سنين بما يمكنه أن يصل بها إلي خمسمائة خطبة استمع الناس إليها .

أفصح العرب

الحديث النبوي الذي يُحتكم إليه في بيان فصاحة النبي هو : ما صح نقله عنه صلي الله عليه وسلم، وليس مرويا بلسان أحد بمعناه، وليس وصفا لصفة أو هيئة لشخصه، أو جاء إقرارا منه لعبادة أو سلوك أحد من أصحابه، خاصة أن كثيرا من الرواة كانوا يحدثون عن رسول الله بالمعني وليس باللفظ. .


أما الأحاديث التى هي معيار الحكم في الفصاحة النبوية فهي ما جاءت علي لسان الرسول صلي الله عليه وسلم مع صحة نسبتها ولفظها إليه، وبواقع هذه المعيارية يتسع الفهم الدقيق لحديث الرسول الذي قال فيه " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد" (4) . وفي رواية أخري بدلا من قوله "واسترضعت" كلمة " ونشأت "، والاحتكام في بيان هذه الفصاحة إلي الأحاديث الصحيحة سندا ومتنا، فلا يدخل فيها ما رُوي عنه بمعناه، أو ما جاء وصفا لحالته، أو إقرارا بما شاهده وارتضاه.

وتعود فصاحة النبي صلي الله عليه وسلم، وكونه الأقوى والأمكن فيها من غيره إلي مرجعيات متعددة، أرشده الله إليها، وهيأه لها، لتكون عاملا مساعدا له في نشر الدعوة الإسلامية، وإقامة الحجة لدحض افتراءات الخصوم والأعداء.

1- البيئة:

تُعد البيئة التى نشأ ونما فيها صلي الله عليه وسلم هي الأسبق والأرسخ في تكوين قدراته اللغوية والمعرفية، بدءا من الولادة في مكة والإرضاع والتنشئة الأولي في ديار بني سعد أبن بكر، ويلي ذلك التواصل مع الأماكن والتحولات في حياته كالتجارة خارج مكة، والزواج من بني أسد، والهجرة إلي المدينة، وكلها أو معظمها ذوات لغات متقاربة، وإن اشتملت علي قليل من الاختلاف في المفردات والتراكيب، واحتكاما إلي الفطرة السوية، التى خلقه الله عليها، وليس بعيدا بها عن غيره من البشر، لكنها هيأت له اكتساب المعارف والإدراكات الكثيرة بصورة رائعة، وإن لم تتجل هذه الخصائص بصورة بارزة في بدايات حياته، وكان الخروج الأول للرسول صلي الله عليه وسلم من مكة عندما كان طفلا رضيعا إذ اصطحبته حليمة السعدية، إلي ديار قومها بعمق الصحراء في قلب جزيرة العرب، وبقي عامين للرضاعة، ثم أضيفت إليها ثلاث سنوات أخري بدأت فيها نشأته في هذه الديار، التى يعد أهلها من أفصح العرب، وهي واحدة من أربع قبائل تسمي " عليا هوازن"، واستقبل الرسول في هذه السنوات كثيرا من الألفاظ والتراكيب، وهي إن لم تكن كافية لإشباع الذاكرة، لكنها تمثل قدرا مهما مما وعاه، وتخاطب به في بدايات حياته (طفلا وشابا)، وإن كانت هذه الإتاحات له ولغيره، لكن استعداداته كانت مختلفة، كما أنه لم يذهب- بعد أن رجع إلي مكة – إلي دار للتعليم، أو للدراسة عند عالم أو ثقيف، واستفاد من انتقالاته للتجارة بعض الإضافات اللغوية، التى تُضم إلي ما سبق اختزانه منذ الصبا، ولم يكن خلال شبابه علي علم بما سيؤول إليه حاله، فكانت هذه التميزات بإرادة إلهية مسبقة، وهي بكل تأكيد مدعومة بفطرته اللغوية النقية، ثم تزايدت الحصائل المعرفية لديه بالزواج من بني أسد، والهجرة إلي بني عمرو، وهما الأوس والخزرج في يثرب، فهذه المخالطات قد أسهمت في ارتقائه إلي درجات أعلي في الفصاحة والبلاغة، التي تقف علي قمتها لغة قريش، والتى بلغت من التمكن والذيوع والرقي ما جعلها صالحة لأن ينزل الوحي الكريم بها.

2- الوحي القرآني

بدأ نزول القرآن الكريم علي الرسول عندما وصل إلي أقصي درجة لديه من النضج الفكري والتشبع المعرفي، واتساع الذاكرة بما تشكل لديه من نواتج التأمل في خلق السموات والأرض، وكان الخطاب الأول له من الله تعالي بأسلوب الأمر الداعي إلي القراءة، تعبيرا عن منهج الرسالة الأخيرة من الله تعالي للبشر.

وتمكن الوحي القرآني من قلب الرسول وذاكرته، فحفظه، ودعا الناس إليه، وتعامل معهم به في ظلال تفعيل الدعوة وشرح المنهج، وغير ذلك من المستتبعات التى شرح الله بها صدر الرسول ولسانه، فتمكن من اللغة العربية، التى كانت وسيلة فريدة في بيانه للناس.

3- العطاء الإلهي:

لم يتوقف عطاء الله تعالي للرسول صلي الله عليه وسلم علي الوحي، حتي يصل إلي قمة الفصاحة الإنسانية، وإنما امتد العون الرباني إلي سائر المكونات الخِلقية، فبينه وبين ربه تناجيات غير معلنة، وعطاءات غير مدركة، وخواطر تهبط عليه فيتمكن معها من الإبلاغ وشرح المنهج، وبسط الرؤيا لما لا يحيط به علمه وتفكيره الإنساني، وجاءت هذه التجليات استنادا إلي الاستعداد والتهيؤ البشري للرسول، قال صلي الله عليه وسلم :" أدبني ربي فأحسن تأديبي " (5) .

وهذا التأديب راجع إلي الخِلقة أو الفطرة التى طبعه الله عليها، والاستعداد الذي ينمو مع ارتقائه في مسيرة الوصول والاقتراب من الله تعالي، كما يعود إلي الجانب الأخلاقي، الذي تعلمه واستقاه من عطاءات الله له، قال تعالي " وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً" (6)


وارتقت هذه العطاءات، لتصل بالرسول صلي الله عليه وسلم، ليكون أفصح العرب جميعا.

دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com




(1) المائدة 67
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري
(4) راواه الطبراني في الكبير، وللحديث روايات أخري.
(5) ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود.
(6) النساء 113