كتب القدماء والمحدثون علي اختلاف أزمانهم وتوجهاتهم عن بلاغة الرسول صلي الله عليه وسلم، وشرحوا قدراته اللغوية والمعرفية، التى ارتقي بها بيانه، فصار في القمة من كلام البشر، واختاروا له من الشواهد الدالة ما يكشف عن تميزه في الإبلاغ عن دعوته، وشرح منهجه في مخاطبة سائر الخلق في زمانه باللغة السامية والإشارة الدالة، التى تطابق مقتضي الحال، التى يعرض لها، ومراعاته للمستويات والقدرات المعرفية عند من يخاطبهم ويتحدث إليهم بالكلام البليغ، الذي يبهر النفوس، ويستحوذ علي العقول، ولذا فإن بيانه النبوي يفوق معطيات عدد من البلغاء، فضلا عن واحد منهم، لا يستطيع أن يستجمع الحصائل البيانية والخصائص المميزة للبلاغة النبوية.


وقد كانت بلاغة الخطاب صفة متميزة وبارزة في الرسول صلي الله علية وسلم، فقد نشأ بين أقوام عُرفوا ببلاغة الكلام وتزيينه، وبدا علي ألسنتهم طبعا مألوفا غير متكلف في غالب الأحوال، وجاءت معجزة الرسول كلاما يُتلي، للتعبد بقراءته، وإعجازاً للبشر بنظمه وبلاغته، ولما كان حال الرسول علي ذلك وَسَمُوه بالشعر والكهانة والسحر، إذ أن ما ينطق به ليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثله، أو بشيئ منه وارتقي التأمل الإنساني الشامل مع القرآن الكريم، فصارت التلاوة له إقراراً بأنه من كلام الله تعالي، وليس من تأليف البشر، أما حديث الرسول صلي الله عليه وسلم فمن عند نفسه، وهو كلامه الذي يقوله بطريقته، ويخاطب الناس به علي قدر أفهامهم ومستويات القبول لديهم، وهذا هو السمت البلاغي، الذي يطابق مقتضي حال المستمع، ومن يتحقق فيه التأهل لسماعه، للعمل به، والمحافظة عليه.

وأقر الرسول صلي الله عليه وسلم بعطاء الله له، من بلاغة القول وإبداع الصياغات والتراكيب اللغوية التى لم يُسبق إليها، وعَرْض العبادات والحجج والبراهين والأحكام والأخلاق وسائر المناهج الحياتية بصورة فريدة، تؤكد أن مخزونه من الألفاظ والمعاني يفوق قدرات الآخرين، وتجعل من الأحاديث التى صاغها بلسانه في مرتبة تالية لكلام الله تعالي، وأثبت الرسول صلي الله عليه وسلم عطاءات الله له في مجموعة من الأحاديث، فقد روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم :" نُصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم " (1) وقال :" بعثت بجوامع الكلم" (2)

وذكر بعض علماء الحديث فيما يتصل ببيان المراد من جوامع الكلم، أي " القرآن الكريم، جمع الله تعالي في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة، وكلامه صلي الله عليه وسلم كان بالجوامع، قليل اللفظ كثير المعاني" (3) وتعظم عطاءات الله تعالي للرسول فيما يتصل ببلاغته، وإضافة إلي ما تقدم ذكره، قال عليه الصلاة والسلام :" أنا محمد النبي الأمي قالها ثلاثا- ولا نبي بعدي، أوتيت جوامع الكلم وخواتمه وجوامعه" (4) وكانت البلاغة صفة متميزة في شخصيته، لبعض المرعيات في بعثته، إذ كان خاتما للأنبياء ومبعوثا في قوم تميزوا بالبلاغة وحسن البيان وروعة التعبير.

وذكرت بعض آيات الوحي الكريم ما منحه الله تعالي للرسول صلي الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب والغاية في البلاغة، وجاءت معجزته الكبري فيما نبغ فيه قومه، قال تعالي :" وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً " (5 ) وأن هذا العطاء في ظل شموليته وتنوعه قد حقق للرسول صلي الله عليه وسلم القدرة علي مخاطبة الفصحاء حتى الإقناع لهم والتفوق عليهم، فاستطاع أن يبلغ رسالته، وأن يشرح دعوته دون إعاقة في مخاطبة الآخرين، سواء أكانوا من قريش أم من غيرها من القبائل، قال تعالي :" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا" (6).

وهذا واضح الدلالة في الأمر الإلهي, بخصائص خطاب الرسول إلي بعض المناوئين للدعوة، وذلك إما بالقرآن الكريم فيذكره الرسول لهم، أو يكون من عند نفسه، فيفسره في حدود عطاءات الله تعالي، وهذا الختام للآية المذكورة شهادة للنبي بالقدرة علي الكلام البليغ، وهي شهادة بوضعه الكلام في موضعه، والشواهد علي ذلك من كلام رسول الله أكثر من أن تحصي، كما أن مفهوم البلاغة، عنده هو الإيجاز، مع تغيير مستويات القول إذا دعت الحاجة إلي ذلك، فقد سمع أعرابيا يدعو قائلا :" اللهم هَبْ لي حقك، وارض عني خلقك "فقال النبي صلي الله عليه وسلم " هذا هو البلاغة " (7)

ومن بين الخصائص البيانية للبلاغة النبوية ما يلي:

1- لقد جاءت الألفاظ في أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم مساوية للمعاني، فلا يزيد أحدهما عن الآخر لأن هذه الزيادة إذا تحققت فإنها تحدث خللا واضطرابا لا يتفق مع بلاغة الرسول، ولا يتطابق مع حال المخاطبين، بحيث يكون الكلام في مستوي إدراكاتهم التى لم يكن الرسول صلي الله عليه وسلم غافلا عنها، ومن ذلك قوله " نعمتان مغبون فيها كثير من الناس " الصحة والفراغ " (8)وقوله صلي الله عليه وسلم :" الحرب خُدعة " (9) وقوله " البلاء موكل بالمنطق " (10) وقوله :" الندم توبة" (11).

2- استطاع الرسول صلي الله عليه وسلم بسائر معطياته علي اختلاف وسائل احتوائها أن يقدم أقوالا موجزة حكيمة، لم يسبق إليها، وصارت حكما أو أمثالا يحفظها الناس ويرددونها في المواقف المناسبة لها، كقوله عليه الصلاة والسلام :" الآن حمي الوطيس"(12) وقد ذكر ذلك عندما اشتد القتال في غزوة حنين، وقوله " هُدنة علي دَخَن" (13) وقوله " مات حتف أنفه " (14) وقوله " اليد العليا خير من اليد السفلي " (15) وقد ذكر علماء البيان النبوي أن هذه الأقوال لم يسبق الرسول إليها (16)

3- اعتمد الرسول صلي الله عليه وسلم في بيانه لبعض المعاني علي التشبيه البلاغي، لتقريب المعاني إلي الناس، والتشبيه مجال رحب في بيان الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، واستعان به الرسول في عرضه بعض المعاني، لإبراز الصورة المعنوية في صورة حسية مرئية، أو لتقريب صورة بأخري، وذلك بعض ما اختصه الله تعالي به، دون سائر البشر، قال صلي الله عليه وسلم ": مثل القائم علي حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا علي سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها " :الحديث (17)

والغرض من ذلك إبراز معني الملتزم بتفعيل حدود الله والمحافظة عليها، وبيان الآخر، الذي غرق فيها، وتحلل من ضوابطها بصورة أناس ركبوا في سفينة، وانقسموا إلي فريقين، بعضهم منضبط ومحافظ علي سلامة الجماعة، ورافض للمنكر، وآخرون لا يقدرون المسئولية، ولا يستوعبون الانضباط، ولا يراعون مصلحة الجماعة.

4- لم يكن الرسول صلي الله عليه وسلم يكتفي بكلامه الموجز، أو بضرب المثل، واستكمال المعني من خلال التشبيه إلي غير ذلك من الخصائص، وإنما كان يستعين بالإشارة أو الحركة، العضوية في إيصال المعني وتوضيحه لمستمعيه، وإذا كان الحال يستلزم ذلك، فكانت التعبيرات مدعومة لديه بحركة الجسم، أو بأحد أعضائه، حتى يفي الحديث بالغرض، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قلنا : بلا يا رسول الله قال " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال :" ألا وقول الزور، فما زال يكررها، حتي قلنا ليته سكت" (18) وكان الرسول قد حذر من قول الزور وشهادته، حتى تمني الصحابة سكوته شفقة عليه، ثم اعتدل في جلوسه، مع تكرار التنبيه علي خطورة شهادة الزور، لما يستتبعها من حقد وكره وضياع للحقوق.

وفي حديث آخر استعان ببعض أصابعه، لتأكيد المعني المراد، قال صلي الله عليه وسلـم " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعية السبابة والوسطي" (19) .

والإشارة بالأصبعين المتلازمين وسيلة إيضاحية، لبيان التلازم بين الرسول وكافل اليتيم، إذ يكونان متلازمين في الجنة كالتلازم بين السبابة والوسطي، وقال صلي الله عليه وسلم بشأن عون المؤمن للمؤمن، الذي ينطلق من مستوي الفردين إلي مستوي الجماعتين، ومن ثم الامتداد إلي سائر الأمة، فقال صلي الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه" (20) فالتشبيك بين الأصابع ايضاح عضوي وحركي يضاف إلي تشبيه القوة والتماسك الحاصل من تلازم المؤمن للمؤمن بما يحدث في عالم البناء من إضافة قطعة إلي قطعة أخري بما يحقق القوة التى دَعَم معناها بالتشبيك بين الأصابع.

5- تميزت لغة الحديث النبوي بالسهولة واليسر فلا هي بالصعبة العسيرة، ولا باليسيرة المبتذلة، وشواهد ذلك في كلام الرسول كثيرة، ومنها قوله :" منهومان لا يشبعان " طالب علم وطالب دنيا " (21)


6- كان صلي الله عليه وسلم يطابق كلامه بمقتضي حال المستمع صغيرا أو كبيرا، عارفا أو جاهلا، كما كان يراعي وقته وعمره، بل ربما تحول خطابة إلي الإجابة، عن سؤال بجملة صادقة، لكنها تمثل مزاحا محببا يثير شهية المتلقي للاستماع والفهم، الذي يعقبه القبول والرضا، وذلك مثل قوله :" سأحملك علي ولد الناقة " (22) وذلك إجابة لطلب من حاضنته (أم أيمن) التى طلبت منه دابة للارتحال عليها، والتى قالت بدروها له :" إنه لا يطتقني " وهي تظن أن الرسول يقصد صغار ولد الإبل، فأفهمها بما أضحكها، حيث أعلمها أن الجمل الكبير هو ابن للناقة، ومثل هذا كثير في كلامه صلي الله عليه وسلم.

7- لقد رضع الرسول صلي الله عليه وسلم اللغة من قريش، غذاها بسائر معارفه التى تكونت لديه، منذ نشأته المبكرة في ديار بني سعد بن بكر، والتقائه بوفود القبائل في السنوات الأخيرة من حياته، وتمكن بما استقر في أعماقه، وبما مكنه الله منه أن يخاطب بعض الناس بلهجاتهم المنبثقة من العربية القحطانية، والتى ارتقت إلي لهجة قريش، هذه التى نزل القرآن الكريم بها، وصار ذلك فوزا لها علي سائر نظائرها، ففي حديث مع وفد يمني قادم إليه، كانت الألف واللام لديهم تكت وتقرأ ألفا وميما، فقال لهم :" ليس من أمبر أمصيام في أمسفر" (23)
لقد تجلت بلاغته صلي الله وعلية وسلم في سائر أحاديث وخطبه ورسائله بصورة تجعله في القمة من البلاغة والفصاحة دون سائر البشر، تلك التى أفاض فيها القدماء والمحدثون وعرضوا لها عرضا يليق بموقع الرسول فيها، وتمكنه منها وإحاطته بها بصورة مبهرة ورائعة.

إن الخصائص العامة لأحاديث الرسول متسعة، وشواهدها كثيرة ومعانيها دالة، لا تتوقف علي عصر دون عصر، ولا علي بلد دون بلد، وهي تأتي بألفاظها ومعانيها وسائر خصائصها في المرتبة الثانية بعد كلام الله سبحانه وتعالي

دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com



(1) مسلم
(2) البخاري (7013)
(3) هامس صحيح مسلم ( شرح النووي) جـ 5 ص 5
(4) رواء أحمد في مسنده ( الفواتح : الابتداءات والخواتم : النهايات، والجوامع: الشاملة لمجموع مقالاته.
(5) النساء 11
(6) النساء 63
(7) من استشهاد " علي العماري في كتابة بلاغة الرسول ص 51
(8) البخاري ومسلم
(9) ابن أبي شبية وغيره
(10) الطبراني وأحمد
(11) راوه أحمد عن ابن عباس، والحاكم عن جابر ، وهو صحيح عند الألباني
(12) البخاري ومسلم
(13) البخاري ومسلم
(14) أحمد والطبراني
(15) متفق عليه
(16) أورد مصطفي صادق الرافعي كثيرا من هذه الأحاديث وغيرها في كلامه عن البلاغة النبوية.
(17) البخاري
(18) متفق عليه (البخاري ومسلم) والترمزي
(19) متفق عليه
(20) متفق عليه
(21) الطبراني وغيره
(22) أورده ابن سعد في الطبقات الكبري حـ 1 ص 260
(23) رواة أحمد