عائشة عبد الرحمن اسم متميز، وعلامة فارقة فى مسيرة الحياة الإسلامية والعربية بالقرن العشرين، تلك الأستاذة القديرة التى قادت سفينتها وسط الأنواء واستطاعت أن تقاوم بها الأمواج، وترسو معها على شواطئ الوصول فى ثقة واطمئنان ، ثم فارقت الدنيا وهى تحمل القلم الذى طالما دافعت به عن اللغة العربية والحضارة الإسلامية ، والتى ظلت مرابطة فى ساحتها أكثر من ستين عاماً إلى يوم وفاتها فى الأول من ديسمبر عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين بعد حياة حافلة بالعطاء، الذي أينع وأثمر تراثاً ضخماً من المؤلفات الموسوعية ، والمقالات المتعددة فى سائر التخصصات ، والتوجهات ، والمذاهب ، والمعتقدات .
وكانت عنايتها بالتراث لا تقارن حيث عكفت على دراسته وتحقيقه بصور مختلفة ، وبمنهج واضح لا يتعدد ، كما سيتضح ذلك بصورة كاشفة فى بقية هذه الخلاصة الموجزة :
أولاً: استثمرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" نشأتها الدينية ودراستها اللغوية والإسلامية فى العناية بتفسير القرآن الكريم ،وبيان وجوه الإعجاز فيه ، وتحقيق بعض المسائل المتصلة بالعقيدة والفلسفة وتجلى ذلك فى عدد من المؤلفات نذكر منها
1- التفسير البيانى للقرآن الكريم ،ذلك الكتاب الذى قدمته فى جزءين([2]) من خلال منهج صارم لم تحد عنه طوال حياتها مع النص القرآني المعجز ،حيث عرضت فى الجزء الأول لسبع سور لم تراع فيها الترتيب، الذى جاءت عليه بالمصحف الشريف وهى : (الضحى، الشرح، الزلزلة، العاديات، النازعات، البلد، التكاثر).
لقد كانت عناية بنت الشاطئ بخدمة الدراسات القرآنية لا حدود لها، وجعلت توجهها مستنداً على حتمية بعث التراث القرآني بتجديد بيانى يتطابق مع فلسفتها فى التناول، ومنهجها فى التعامل معه تأثراً بأستاذها وزوجها "أمين الخولى"، ذلك التوجه الذى خضعت له وعكفت من خلاله على تدبر أسرار البيان بالقرآن الكريم، وأثمر ذلك عن عطاء زاخر للمكتبة القرآنية، والذى تمثل فى سبعة مؤلفات، سوى كتاب "الإعجاز البيانى"، الذى حددت فى مقدمته هذه المؤلفات([3]) وكانت تجد فى القرآن الكريم النبع السخى، الذى تنهل منه، عندما تدعى إلى الجامعات العربية، أو المؤتمرات الدولية والمواسم الثقافية، وكانت شديدة الحرص على بيان المنهج الذى التزمت به فى تناولها للقرآن الكريم، متأثرة بالبيئة التى نشأت فيها، والحياة الزوجية التى تعلمت منها، والحياة العملية، التى تجاوبت معها بصورة متميزة.
وعرضت فى الجزء الثانى لسبع سور هى (العلق، القلم، العصر، الليل، الفجر، الهمزة، الماعون)، وأعادت التأكيد على بيان المنهج الذى خضعت له فيما قدمت من دراسات عن القرآن الكريم، ذلك المنهج التى تستقرئ فيه "اللفظ القرآني فى كل مواضع وروده، للوصول إلى دلالته، وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها فى الكتاب المحكم، وتدبر سياقها الخاص فى الآية والسورة، ثم سياقها العام بالمصحف كله، التماسا لسرها البياني"([4])
2- الإعجاز البيانى للقرآن الكريم قدمت بنت الشاطئ إلى مكتبة الدراسات القرآنية هذا الكتاب الضخم فى جزءين، الأول عن الإعجاز البياني، والثانى عن مسائل (ابن الأزرق) وفى فاتحة هذا الكتاب قالت "لولا نسب لى فى الشيوخ عريق، لتهيبت التصدى لهذا الموضوع الدقيق الصعب، الذى توارد عليه أئمة من علماء السلف، أفنوا أعمارهم فى خدمة القرآن الكريم، وقدموا إلى المكتبة الإسلامية ثمار جهودهم السخية الباذلة.
ولولا ما أعلم من مكانة جليلة للمرأة المسلمة فى تاريخنا لأحجمت عن التقدم إلى هذا الميدان الجليل ، إشفاقاً من أن ينكر مكانى فيه ....."([5]).
وعرضَت فى الجزء الثانى من الكتاب لمسائل نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما، فى نحو مائتى كلمة من غريب القرآن، مع شاهد من كلام العرب، لتفسير كل مسألة، قالت : "المسائل معروفة لعلماء اللغة والشعر والقرآن، على خلاف بينهم فى طرقهم إليها وأسانيدهم، وفى مساقها وعددها، وربما اختلفوا كذلك فى المروى عن ابن عباس فى تفسير بعضها وشواهده عليها "([6]).
ثانياً: بعث التراث الاسلامى من خلال الحديث النبوى
اتجهت بنت الشاطئ إلى خدمة الحديث النبوى، من خلال تحقيق موسوعة ضخمة اقتربت من الألف صفحة، ذلك الأثر النفيس الذى عكفت على دراسته بيراعها المعطاء، وهو "مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح"، الذي حققته بعزيمة قوية، ورغبة صادقة، وجهاد متميز استثمرت فيه طاقتها وموهبتها، حيث تحدثت عن "أبى عمر بن الصلاح" وكتابه "المقدمة فى علوم الحديث"، وعن "السراج البلقينى" وكتابه "محاسن الاصطلاح"، وهو أيضاً فى الحديث وعلومه، وهذان الأثران (المقدمة والمحاسن) أبرز ما تمخضت عنه طاقة "الدكتورة عائشة" بمجال خدمة التراث الإسلامى في الحديث النبوي.
ثالثاً : إحياء السيرة النبوية :-
لقد جاء حرص هذه الشيخة على إعادة القراءة للسيرة النبوية من نواح متعددة، وكان الاتجاه الأكثر اهتماما لديها هو جانب المرأة، إذ اتخذت من كتاباتها عن سيدات بيت النبوة جسراً تعبر فوقه لبحث قضايا المرأة فى ظلال الرسالة الحضارية للإسلام.
ويعد ما كتبته عن أم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) "آمنة بنت وهب" من أنفس ما كتب عن هذه الأم الرءوم ، وقد اتخذت من شخصية النبي مصدراً هاماً تستعين به على فهم شخصية آمنة ، وذلك بما تركت فيه من أثر واضح ، وما نقلت إليه من دماء قومها الكرام ، الذين تنقل فى أصلابهم جيلاً بعد جيل .
وقدمت تأريخاً وتدقيقاً فى كتابها " نساء النبى"مهدية أياه إلى زوجها الحبيب ، وعرضت فى كتابها " بنات النبى " لقضية الأبوة فى المجتمع العربى ، وكتبت عن الأخوات الأربع ( زينب ،ورقية، وأم كلثوم ،وفاطمة ) وأهدت هذا الكتاب إلى ابنتها الغالية فقيدة العلم والشباب ، الدكتورة " أمينة أمين الخولى " إلى غير ذلك من المؤلفات عن سيدات بيت النبوة ، بما يكشف عن أبعاد شخصية (محمد صلى الله عليه وسلم ) ابناَ وزوجاً وأباً ،والذى أتمت الدكتورة "بنت الشاطئ" – إلى حد كبير - تصوير الملامح العامة لشخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والتي أبرزتها فى كتاب " مع المصطفى فى عصر المبعث "
رابعا:احياء التراث العربى من خلال الدراسات الأدبية والنقدية
اتجهت "بنت الشاطئ" إلى العناية بالتراث الأدبي والنقدي فى حياة الأمة العربية،فاختارت الشاعر"أبا العلاء المعرى" ،الذى سخرت قلمها لتحقيق رائعتها الأدبية المتميزة"رسالة الغفران"التى أبدعت فيها،وقدمتها أطروحة جامعية نالت بها درجة "الدكتوراه".
وتمخض حبها لهذا الشاعر عن ولادة كتاب لها بعنوان " أبو العلاء المعرى " ،الذى قالت عنه لو كان "أبو العلاء المعرى" حياً لنافس زوجى فى حبى له ، إذ أحبت فيه الصدق ، والإبداع .
لقد عاشت "بنت الشاطئ" حياة المجاهدين الأبرار والمرابطين فى ساحات الفكر والإبداع ، الذين لم يحصروا كل حياتهم فى الماضى وإنما أضافوا إليها معايشة الواقع بقضاياه المتشابكة ، ومعاركه التى لم تتوقف فى الساحات المختلفة، خاصة ما اتصل منها بقضايا المرأة كالسفور والحجاب، وتلبس الإسلام بالعنف الاجرامى ، والقضايا الإسلامية المختلفة ، وخاصة تلك التى تمس العقيدة مثل البهائية ، والغزو الفكرى ،والإصلاح الاجتماعي ، إلى غير ذلك من النشاطات المتعددة ، والتى بقيت فيها شامخة ، ورائعة ومقاومة للباطل ، ومدافعة عن الحق إلى أن فارقت الحياة ، رحمها الله رحمة واسعة، وأسكنها منازل الصديقين ، والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .
الثلاثاء 27 يناير 2009م
الدكتور / السيد محمد أحمد الديب
الأستاذ بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر بالزقازيق
(1) ملخص البحث الذى سيتم تقديمه إلى جامعة أسيوط فى أبريل عام 2009 من خلال مؤتمر ( المرأة وآفاق التنمية )
(2) طبع الجزء الأول فى عام 1962 م، تم طبع الثانى فى عام 1968م
(3) هى : 1- التفسير البيانى، 2- مقال فى الإنسان، 3- القرأن والتفسير العصرى، 4- القرآن وقضايا الانسان، 5- الشخصية الاسلامية، 6- أسرار البيان القرآنى، 7- كتابنا الأكبر.
(4) من مقدمة الجزء الثانى لكتاب ( التفسير البيانى للقرآن الكريم) ص 7 – طبع دار المعارف بمصر
(5) الإعجاز البياني للقرآن الكريم – ص11.
(6)الإعجاز البياني للقرآن الكريم – جزء ثان – ص 289.