صار الشعر العربي بعد الهجرة النبوية أداة فاعلة، ودعامة ساندة للدعوة الإسلامية، ولم يكن الشعراء بالمدينة شهوداً على مُجريات الأحداث للإسراء والمعراج في مكة المكرمة، ولذا لم يعرض له الذين اعتمدهم الرسول صلى الله عليه وسلم جنوداً في ميدان الكلمة الهادئة والمخاطبة الرشيدة، وهم كثيرون، وفي مقدمتهم حسان بن ثابت.

شعر الدعوة الإسلامية

لقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم ضروباً من الشعر لا تثير الفتنة، أو تحضُّ على البغضاء، ولم يكن صلى الله عليه وسلم شاعراً، ارتقاءً برسالته السامية عن تسرب الشك إليها، أو وصفها بما تتسم به أقوال بعض الشعراء، الذين يقولون مالا يفعلون في ضوء قوله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وجاء حديث الرسول إشادة ببعض الشعر، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لَحِكَمَاً" ([2])، وانطلق حسان وعبدالله بن رواحة، وكعب بن زهير وغيرهم إلى مدح الرسول وأصحابه، والتصدي لهجوم الشعراء من المشركين، ووَصْف الغزوات، ورثاء الأبطال، الذين استشهدوا في سحات القتال، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهجهم، أو هاجهم وجبريل معك".

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائماً، يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"([3]).

ومن أروع ما قاله حسان في مدح الرسول ووصف خِلْقته وخُلُقه:

وأحسنُ منك لم تَر قطُّ عيني  ***  وأجملُ منك لم تلدِ النساءُ

خُلقْتَ مُبرءاً من كلّ عيبٍ  ***  كأنك قد خُلقت كما تشاء([4])

حديث الأدباء عن الإسراء والمعراج

تواصل الشعراء في المدائح النبوية، وخلَّد التاريخ الأدبي منها روائع بارزة خلال مسيرة الإسلام، وعرض بعض الشعراء "القدماء" لمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة الإسراء والمعراج، أما المحدثون فأفاضوا في القول والإبداع، وذلك في مقاطع من القصائد، أو في قصائد مطولة، تناولت هذه المعجزة بشتى تفصيلاتها، وتجلى التأثر ببعض ما جاء في الإسراء والمعراج بثلاثة إبداعات مختلفة، ولا يُتخذ هذا التأثر آية دلالات على التقارب في المضمون أو الغرض، فقد يكون في جزء من الحادثة كاتخاذ رفيق في عوالم من البشر، خارج نطاقات الحس والمشاهدة البصرية، وأذكر لذلك ما يلي:

1- رسالة التوابع والزوابع لابن عامر بن شُهيد الأندلسي([5]) وهي قصة خيالية طويلة، ضاع معظمها، وبقى قدر منها بكتاب "الذخيرة" لابن بسام، أمكن سبكه وإخراجه مطبوعاً والتي اصطحب فيها أديباً، والتقى ببعض الأدباء وغيرهم في عالم الغيب وذكر آراءه فيهم.

2- رسالة الغفران لأبي العلاء المعري([6]) وهي قريبة من فكرة رسالة ابن شُهيد، حيث التقى فيها بصديق له، وأبدي آراءه في أمور كثيرة، وهي تصوير لأحلامه وأشواقه، وتسجل رُؤاه ومذهبه في النقد الأدبي.

3- أبدع الشاعر الإيطالي "دانتي"([7]) رائعته الأدبية المسماة: "الكوميديا الإلهية" التي تسير على فكرة اتخاذ شخص، والالتقاء به في عوالم الغيب وتتكون من ثلاثة أقسام: الجحيم، والمطهر، والفردوس "الجنة"، اعتماداً على نظرة خيالية، واستعانة بالعناصر المجازية حول الآخرة حسب الديانة المسيحية، وهي مزيج من الشعر والنثر، وتأَثَّر في كثير من مكوناتها برحلتي الإسراء والمعراج، وقيل إنه استوحاها من رسالة الغفران للمعري، أي إن بها تأثراً إسلامياً متعدد الجوانب، وقد تُرجمت إلى اللغة العربية، وصارت محلاً للدراسة في الآداب المقارنة.

ثلاثة من الشعراء

1- البوصيري

لم ينقطع التواصل بين المدائح النبوية، طوال القرون الستة الأولى من الهجرة، إلى أن وصلت مسيرة هذا الفن الشعري إلى القرن السابع، فظهر شاعر نابه، خلال حكم المماليك بمصر، وهو الإمام شرف الدين أبو عبدالله محمد بن سعيد البوصيري([8]) والذي أبدع ديوناً شعرياً متميزاً في عصره، امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بعدد من القصائد، التي يقدرها النقاد والمتصوفون غاية التقدير، ومن أبرزها الهمزية والبُردة.

أما الهمزية فتزيد عن أربعمائة بيت، وأسماها "أم القرى في مدح خير الورى" وتبدأ بقوله:

كيفَ ترقىَ رقيّك الأنبياءُ   ***  ياسماءً ما طاولَتْها سَماءُ([9])

وعرض في مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم لكثير من حوادث مسيرته، واختص معجزاته بقدر منها، ومما قاله عن الإسراء والمعراج:

فطوَى الأرضَ سائِراً والسموا  ***  تِ العُلاَ فوقَها إسراءُ

فَصِفِ الليلةَ التي كان للمُخْـ  ***  ـتارِ فيها على البُراقِ استواءُ

وترقَّي به إلى قابِ قوسيْـ  ***  ـين، وتلك السيادةُ القَعْساء([10])

ثم وافي يحدِّث الناسَ شُكرا  ***  إذ أتته من ربِه النعماءُ

وتحدَّي فارتاب كل قريبٍ  ***  أوَ يَبْقى من السيول الغثاءُ([11])

والألفاظ واضحة، والمعاني سهلة ميسورة والعاطفة صادقة، والخيال محدود، فالحديث عن الحقائق والوقائع المستقاة في أغلبها من القرآن الكريم، وجاءت أبيات الإسراء على العموم بلا تفصيلات لما حدث على الأرض وفي السماء.

أما البُردة فقد اختار البوصيري عنواناً لها وهو: "الكواكب الدريّة في مدح خير البرية" وليس ببعيد أن يكون قد كنّاها بالبردة؛ لاشتمالها على مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم([12])، وأبياتها كما في الديوان مائة وستون بيتاً، والهمزية من البحر الخفيف، أما هذه فمن البسيط مما يوحي بقدرة البوصيري على التنوع في الميزان الشعري.

وأول البردة:

أَمِن تذكُّرِ جيرانٍ بذِي سَلَمِ   ***  مَزَجْتَ دمْعاً جَرَى من مُقْلةٍ بدَمِ([13])

إلى غير ذلك من الأبيات التي جاء المطلع بها تقليدياً متواراثاً، مع أن النصَّ في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعرض فيها من بين ما عرض للإسراء والمعراج، فقال:

سريتَ من حَرمٍ ليلاً إلى حَرَمِ   ***  كما سرى البدرُ في داجٍ من الظُّلمَ

وبتَّ ترقى إلى نِلتَ منزلةً  ***  من قابِ قوسينِ لم تُدْرك ْولم تُرمِ

وقدَّمتْك جميعُ الأنبياءِ بها  ***  والرُّسْلِ تقديمَ محذومٍ على خدمِ

وأنتَ تخترقُ السبعَ الطباقَ بهم  ***  في موكبٍ كنْتَ فيه صاحبَ العَلم

حتى إذا لم تَدَعْ شأوا لمُستبقِ  ***  من الدنوِّ ولا مَرْقً لمسْتَنمِ([14])

جاءت الألفاظ في هذه الأبيات من البردة سهلة تتلاءم مع مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وبها بعض التشبيهات التي هدف بها إلى تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء والمرسلين.

وقد حَرص الصوفيون على ترديد هذه القصيدة في المناسبات الإسلامية، خاصة البيت الذي قال فيه:

مَوْلاَيَ صلِّ وسلمْ دائماً أبداً  ***  على حبيبكِ خيرِ خلقِ الله كلهمِ

وقد بالغ البوصيري في البردة بوصف الرسول، وكان مدفوعاً بصدقٍ في العاطفة وسلامة في القصد والنية، مع تأويل كثير مما بها من خروجات لا يقرها كثير من النقاد والمفكرين.

2- ابن نُباتة المصري

عاش ابن نباتة المصري في عصر سلاطين المماليك بمصر، وسلاطين الأيوبيين بالشام([15])، وشهدت حياته أزدهار الاتجاه إلى التصوف، ولقب بأمير شعراء المشرق.

وتمثل المدائح النبوية باباً في ديوانه، الذي يحتوي الكثير من الأعراض الشعرية، أما مدائحه النبوية فله فيها بعض القصائد الجيدة، مع ما في شعره من خروجات لا تتلاءم مع ظواهر المديح النبوي، لكنه على كل حال كان يفزع إلى الندم بين وقت وآخر، مما يؤكد رغبته في غفران ما اقترفه من معاصٍ وآثام.

ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بست قصائد هي مجموع مدائحه، منها اللامية المؤلفة من تسعة وتسعين بيتاً، ومطلعها:

ما الطرفُ بعدَكمُ بالنومِ مكحولُ  ***  هذا وكم بيننا من رَبْعكم مِيلُ([16])

والقصيدة على روي ووزن بُردة كعب بن زهير، وبُردة البوصيري.

ففي لامية ابن نباتة يذكر بعض الكتب التي بشرت بقدومه صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عن معجزاته، وسَعْى الشجرة إليه.. "ويخلص من كل ذلك إلى الحديث عن البُراق، وإسراء الرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتعريجه على السموات السبع"([17]).

ومن أبيات الإسراء والمعراج قوله:

وحازَ سهمُ المعالي حينَ كان له   ***  من قابِ قوسين تنويهٌ وتنويلُ

عَلَي البراقِ لوجه البرقِ من خَجَلٍ  ***  ورجْلُ مَسْعاهُ تلوينٌ وتشكيلُ

لسدرةِ المنتهى يا منتهى طَلَبي   ***  ما مثلُه يا ختامَ الرسلِ تحويلُ

ويبدو التأثر فيها واضحاً بقصيدة "البردة" للبوصيري.

3- عبدالرحيم البُرعي

ذاع التصوف وكثر رواده وشعراؤه في عصر المماليك، ومن هؤلاء الشاعر عبدالرحيم البرعي([18])، الذي جعل ديوانه كله للمدائح الربانية والنبوية والصوفية، وجاء مدح الرسول في عشرات القصائد، عرض في الكثير منها لمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها حادثة الإسراء والمعراج ويذكر فيها الأبيات، جامعاً بين الإسراء والمعراج في نص واحد، لكن أشعاره ذات أنساق خاصة، وكلها في فن المدح على اختلاف بواعثه وضروبه.

ويصور معجزة الإسراء والمعراج في إحدى نبوياته، قائلاً:

لله مَنْ أسْرى به الرحمنُ في   ***  أفُق العُلا بَدْراً بغير مَحَاقِ

ولمسجدِ الأقصى استمرَّ رحيلُه  ***  وثَنى إلى عرشِ المهيمنِ راقِ([19])

وقال في إحدى مدائحه للنبي صلى الله عليه وسلم:

سارت من المسجدِ الأقصى ركائبهُ   ***  يزُّفُه مُسْرج الإسرا ومُلْجَمُهُ

والشوقُ يهتفُ يا جبريلُ زُجَّ به   ***  في النور ذلك مرقَاهُ وسُلَّمُه

والعرشُ يهتزُّ من تعظيمه طرباً  ***  إذ شَرَّف العرشَ والكرسيَّ مَقدَمُهُ

والحقُّ سبحانه في عِزِّ عزَّتِهِ   ***  من قابِ قوسينِ أو أدْنَى يُكلِّمُه

فكمْ هنا لِكَ من فخرٍ ومن شرفٍ  ***  لِـمَنْ شديدُ القوى وَحْياً يُعلِّمُه([20])

والبدء في هذه الأبيات من المسجد الأقصى، تصويراً لما كان بالمعراج، وتنويهاً لإشارات القرآن الكريم، وقد يأتي بدء القصيدة بالإسراء والمعراج على غير ما سارت عليه أنساق المديح، قال:

أعلِمْتَ مَنْ رَكِب البُراق عَتِيماً  ***  وتَلاَه جبريلُ الأمينُ ندِيماً([21])

حتى سَمَا فوق السماءِ قدُوماً   ***  ودنا فكلم رَبَّه تكلِيماً

صلوا عليه وسلموا تسليماً   ***  أم من الرُّسْلِ الكرام تقدماً

ونوى الصلاة بهم وكبّر مُحْرِماً  ***  وترَى إلى ذي العرش فرداً بَعْدما

بلغ الأمينُ مكانه المعلومَا  ***  صلوا عليه وسلموا تسليماً([22])

وتواصل الأبيات بيان المكرمات للرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالأفق الأعلى إلى غير ذلك من الشواهد والدلالات على توسع هذا الشاعر في بيان ما جاء بهذه المعجزة الخالدة، وقد جاء قدر الشعر بمستوى عصر المماليك. "وللحديث باقيات ، إن شاء الله تعالى"

دكتور/السيد محمد الديب\

Sayed.Addeeb@hotmail.com


([1]) الشعراء 224- 227.
([2]) المعجم الأوسط (7671)، والمستدرك للحاكم (6569).
([3]) سنن أبي داود (5015)، عن الإصابة لابن حجر ج2، ص146، طبع دار الغد العربي.
([4]) ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، ج1، ص441، تحقيق د. وليد عرفات، طبع دار صادر، بيروت 1974م.
([5]) ولد بقرطبة عام 382هـ، وتُوفى بها سنة 426هـ.
([6]) ولد في معرة النعمان من شرقي الشام عام 363هـ، ومات بها سنة 449هـ.
([7]) ولد الشاعر الإيطالي "دانتي ألُجيري" في فلورنسا عام 1265م، وتوفى في "رافينا" سنة 1321م.
([8]) ولد البوصيري بمصر في حدود عام 608هـ، وعاش في القاهرة، وتوفى بها، أو بالإسكندرية في سنة 696هـ، وله قبر مشهور، يتصل به مسجد كبير..
([9]) ديوان البوصيري ص49، تحقيق محمد سيد كيلاني --طبع مصطفى الحلبي عام 1393هـ، 1973م، الطبعة الثانية.
([10]) القعساء: الثابتة الدائمة.
([11]) الديوان ص54، والغثاء: القش على وجه السيل.
([12]) البردة في الأصل هي قصيدة كعب بن زهير، التي أنشدها في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
([13]) الديوان ص238.
([14]) الديوان ص245، والمستنم: طالب الرفعة إلى السنام، وهو أعلى الشيئ.
([15]) ولد ابن نُباتة بالقاهرة عام 686هـ أي قبل وفاة البوصيري بعشر سنوات، توفى ودفن بالقاهرة سنة 768هـ.
([16]) ابن نباتة المصري --أمير شعراء المشرق، للدكتور/ عمر موسى باشا، ص274، طبع دار المعارف، عام 1992م.
([17]) السابق ص277.
([18]) ولد الشاعر عبدالرحيم بن أحمد بن عبدالرحيم البرعي في إحدى القرى في جيل بُرع وهو جبل بتهامة اليمن، وتوفى عام 830هـ، وقبره في الخَيْف وهو قرية بمضيق وادي الصفراء على طريق مكة المدينة.
([19]) شرح ديوان البرعي ص103.
([20]) السابق ص98.
([21]) العتيم: شدة الظلام.
([22]) شرح ديوان البرعي ص173.