نزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم منجما طوال ثلاث وعشرين سنة، وهو معجزة خارقة تفوق طاقات البشر، ومجموع قدراتهم بكل المقاييس، وهو: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). ([1])

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل الآية فتثبت في ذهنه، وترسخ في قلبه، ويفهم معناها، ويقدمها لأصحابه فيحفظونها، ويسألون عما غمض عليهم منها، واشتهر بعضهم بحسن الأداء، وجمال الصوت، وشدة الإعجاب بقراءته، وفي مقدمة هؤلاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

والمؤمن عندما يقرأ القرآن ينبغي أن تكون قراءته مشفوعة بالعظة والتدبر والوعي والإدراك، بحيث يتحول بالقراءة إلى مستوعب للقرآن، ومتفهم لمعانيه، ومتدبر لأحكامه، قال تعالى: ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)([2])، أما فيما يتصل بالمستمع  للقرآن فينبغي ألا يقل عن ذلك، إذ يجب أن يكون استماعه مصحوبا بمزيد من التأمل والتدبر، والتفهم لمعانيه من خلال ما يتلى ويقرأ عليه، فهذه الأفضلية للاستماع المرتبط بالتدبر قد كشفه وأبان عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كان عبد الله بن مسعود راويا له، ومتحدثا عنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرأ عليَّ، قلت: آقرأ عليك، وعليك أُنزل يا رسول الله؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا).([3])

قال: كُف أو أمسك، فرأيت عينيه تذرفان([4])، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من ابن مسعود أن يسمعه شيئا من القرآن، فقرأ سورة النساء، فلما وصل إلى الآية المذكورة في الحديث بكى الرسول، وأمره بالسكوت([5])، ورُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هذا شهدت علي من أنا بين ظهرانيهم، فكيف بمن لم أرهم" بمعنى أنه شهيد على من رآهم، وينتظرون فيه الشفاعة لهم، فكيف يكون الحال عند شهادته على من لم يرهم، وكان بكاء النبي لعظيم ما تضمنته الآية من هول المطلع وشدة الأمر. ([6])

ويجب أن يكون الاستماع والإنصات للقرآن الكريم عندما يُتلى سواء أكان ذلك في صلاة أم في غيرها، تأدبا مع كلام رب العالمين، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)([7])، فعلى القارئ أن يستحضر في نفسه أنه يناجى الله تعالى بقراءته، وألا يُشغل بغيرها فينتظر إشادة وإعجاباً بقراءته ممن يسمعه بصورة تخل بجلال القرآن، ووجوب التأدب من القارئ والمستمع.

ومن المؤكد أن خللا سلوكيا يظهر أحياناً أثناء القراءة، حيث تعلو الأصوات معلنة عن الإعجاب بما يتلى، وتزداد الضوضاء، التي لا تتوافق مع كلام الله تعالى، ويَرْضى بعض القراء بذلك، ويعتبرونه دليلا على تميزهم.

والانصات: استماع مع التدبر، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)([8])

وذكر الرواة أن هذه الآية نزلت في القراءة أثناء الصلاة، إذ يتحتم الانشغال بما يتلى فيها من القرآن، إذ "كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض بمكة: "لا تسمعوا هكذا القرآن والغوا فيه" فأنزل الله عزّ وجل جواباً لهم: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ).

أو أن الأمر بالاستماع إلى القرآن في الصلاة بسبب أن الرجل كان يأتي إلى المصلين فيسألهم: كم صليتم، وكم بقي، وأنهم كانوا يتكلمون فيها بشأن حاجاتهم، والظاهر من مجموع الأقوال أن الأمر بالاستماع والإنصات إلى القرآن الكريم في الصلاة وغير الصلاة، وبمقتضى ذلك تتحقق الرحمة كما في ختام الآية.

أما المستمع فعليه الانصاتُ وعدم الصياح ورفع الصوت، ومراعاة التأدب مع كلام الله تعالى، حتى لو كان ما يحدثه تعبيراً عن إعجاب بما يسمع وبما يَفهم من آيات القرآن الكريم.

دكتور/ السيد محمد الديب
Sayed.addeeb@hotmail.com


([1])  هود (1).
([2])  ص (29).
([3])  النساء (41).
([4])  رواه الشيخان، ومعنى تذرفان: أي تسيلان بالدموع.
([5])  مستقى من (التاج الجامع للأصول) جـ4، ص13.
([6])  أورده القرطبي في تفسيره، ج5، ص197.
([7]) الأعراف (204).
([8]) محمد (24).