جاء الإسلام إلى البشرية؛ ليجعل علاقة الإنسان شديدة التواصل بذات الله تعالى، ويؤسس قواعد التعامل بين الناس على المحبة والرحمة وعدم الظلم، ويحظر آية سطوة من الأقوياء على الضعفاء ، ومن الأغنياء على الفقراء ، وفي ظلال الموازين المنضبطة والمحكومة بالقرآن الكريم والسنة النبوية تسير حركة الحياة ، ويتوارى الاستغلال، الذي يفسد العلائق بين أفراد المجتمع .
ولقد نهت الشريعة الغراء عن الربح الفاحش من خلال التجارة، هذا الذي تقع نواتجه في أغلب الأحوال على الفقراء وسائر المحتاجين ، وتنمو أشواكه من خلال الربا، الذي كان سائداً في التعامل المالي قبل الإسلام ، وحرمه القرآن الكريم بينما أحل التجارة المبنية على الأمانة والصدق ، قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ([1]) ، وحذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغش والخداع في التجارة بما يوقع المشتري في الضرر، فقد رُوى عنه أنه قال: "لا يحل لأحد يبيع شيئاً ألا يبين ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك أن لا يبينه"([2])، كما يتمخص الظلم التجاري والغبن الكريه عن الإخلال في تقدير قيمة الشيء المباع، من حيث نوعه ومقداره وكيفيته ، وذلك ما اشتد التحذير منه والنهي عنه ، في قوله تعالى : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ([3])، فالاستغلال في البيع والشراء يتحقق في أحوال كثيرة ، ومنها الاحتكار .
الاحتكار :
إن أخصر ما يقال في بيان الاحتكار أنه --كما قال ابن الأثير- "شراء الطعام وحبسه ليقل ويغلو" ويضيف ابن حجر في بيان معناه قوله: "إمساك الطعام عن البيع ، وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة الناس إليه"([4]).
وأكثر ما يكون الاحتكار في الطعام، ويمكن أن يشمل كلّ ضرورات الإنسان والحيوان ، إذ أن الإنسان يستفيد من منتجات الحيوانات والطيور، فالاحتكار في مطلوباتها احتكار لأطعمة الناس جميعاً ، خاصة الفقراء والمحتاجين ، وأن الكسب الناتج المتحقق من خلال الاحتكار أكل لأموال الناس بالباطل .
وتقول معاجم اللغة: حَكَرهُ حَكْرا : أي ظلمه وتنقّصه ، والحَكْر والحُكْرة: ادخار الطعام للتربص ، وصاحبه محتكر ، ويضيف لسان العرب إلى بيان معنى الاحتكار قوله : "جَمْعُ الطعام ونحوه مما يؤكل، واحتباسه ، وانتظارُ وقت الغلاء به " .
ويرى بعض العلماء أن الاحتكار لا يكون إلا في الأطعمة ؛ لأنها أقوات الناس، التي يحيون بها ، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم --بهمة وعزيمة- اعتماداً على أكلهم وشربهم ، بينما يرى الآخرون أن الاحتكار في كل أنواع التجارات، لبناء مصالح الناس عليها، وارتباطهم بها ، ولتجنب حدوث الاستغلال من خلال عدم التعادل بين الثمن المدفوع والشيء الذي تمّ احتكاره، فالظلم مرفوض على آية صورة، وإن كانت آثاره مع الأطعمة والأشربة أفظع وأبشع، فعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يُقعده بعُظْمٍ من النار يوم القيامة"([5]).
ويتحقق الاحتكار عندما يجمع التاجر أقوات الناس وغيرها من الأسواق ، ويختزنها لديه، انتظارا لندرتها بين الناس، وهي بطبيعة الحال مطلوبة للشراء ، فيلجأ الراغبون في الشراء إلى المحتكر ، حيث يعرضها للبيع بأسعار تفوق الثمن المتوقع، مستغلا حاجة الناس إليها، وقلتها، أو إخفائها من أسواق البيع .
النهي عن الاحتكار :
لا يعد تخزين الأطعمة وغيرها -- للتجارة المشروعة - احتكاراً، فالتاجر الذي يستورد ما يبيعه، ويتجمع منه قدر كبير، يأخذ منه حسب احتياج السوق، ليوزعه للبيع بالسعر الذي يطابق الحال، دون استغلال للناس فليس هذا محتكراً ، وإنما هو تاجر ينظم تجارته بما يراه مناسباً، ودون أن يكون ما يعرضه شحيحاً بسبب منه، في أسواق البيع وهذا هو المسمي "الجالب" الذي ذكره الرسول r في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"([6])، فهذا الجالب الذي يجمع مواد تجارته من خارج البلد أو من داخله، ويسلك في نشاطاته المسالك الصحيحة له شأن وقدر عظيم ، وكذلك الزارع الذي يجمع ناتج أرضه أو مزارعته بعد إخراج الزكاة حسب النصاب المقدر ، وبقى لديه مقدار فائض عن احتياجه ، ولم يتقدم إليه من يشتري بالسعر العادل ، وانتظر مجيء التاجر المنصف الذي يشتري بالثمن المطابق للقيمة الحقيقية فهذا المزارع ليس محتكراً والمخزون لديه ليس احتكاراً ، وإنما المحتكر الذي يجمع مواد الأطعمة التي هي أقوات الناس ، ويحبسها عنهم ثم يبيعها لهم عند قلة المعروض وارتفاع الثمن .
وليس من الاحتكار شأن الأسر الريفية ، التي تدخر احتياجاتها من المنتج المعتمد عليه في الطعام، وذلك لمدة عام، ثم تبيع منه عند الحاجة ، ولا زال الكثيرون يفعلون ذلك ، فعن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم : كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم"([7]) إذ لا يعد هذا احتكاراً حيث لا إضرار بأحد من الناس.
وإذا تجمعت الأقوات وسائر مكونات الأطعمة ، وأصبح المجتمع في غير حاجة لكثرتها، بمعنى أن المعروض فائض عن الحاجة فلا يعد هذا احتكاراً لوفرة المخزون وعدم ارتفاع الأثمان.
وقد نهى الشارع الحكيم عن الاحتكار باشتراطاته المذكورة، لما فيه من الطمع والجشع، الذي ينتاب بعض من يتاجرون في أقوا الناس وسائر متطلباتها، إذ يمثل السلوك الاحتكاري قلقاً واضطراباً وتضيقاًً عليهم، فعن معمر أن النبي صلى الله عليه وسلم :"من احتكر فهو خاطيء"([8]).
فغاية الأمر تتمثل في وجوب المقاومة والتصدي -- وفق الضوابط - لاختزان مواد الطعام إلى حين ندرتها؛ لتحقيق الكسب الفاحش، دون مراعاة لقدرات الناس، وبسبب ضعف الإيمان ، ونفاد التقوى من القلوب، التي تحجرت فلا تخشى الله ، ولا تراعي شؤون العباد ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بئس العبد المحتكر، إن أرخص الله الأسعار حزن، وإن أغلاها فرح"([9]) ، والبيان: "أن الاحتكار المنهي عنه ليس عاماً في كل شيء ، فالغالب أنه احتكار طعام ، وأن يكون من شراء، أي جَمْعه عن طريق الشراء، ليُغلي ثمنه، وأن يكون لأمد ، وأن تكون الغاية منه؛ استغلال حاجة الناس لكسب منفعة، أما مالم يكن من الضرورات أو الحاجات الإنسانية والحيوانية فلا يدخل في باب الاحتكار"([10]).
والاحتكار بما يترتب عليه من تضييق على الناس ، وابتزازهم ، وإخضاعهم للإجبار على الشراء بأثمان جائرة نوع من الفساد في الأرض ، بل هو من أشد أنواع الفساد، الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه الحكيم ، قال جلت قدرته: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ([11]) ذلك أن بعض التجار لا يرضَون بما ساقه الله إليهم من كسب حلال ، وتسيطر عليهم الرغبة في الاكتناز، وتجاوز الآخرين، الذين يزيدون عليهم في مقدار الثروة فيلجئون إلى الاحتكار اللعين، ويغفلون عن شكر الله تعالى عما أنعم به عليهم من نعم لا يحصونها فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله"([12]) فليس حراما أن يتاجر الإنسان في الأقوات وغيرها ، ويدخر منها كميات قليلة أو كثيرة ، ولكن المحرم والمرفوض أن يجمعه ويخفيه ويمتنع عن بيعه مع حاجة الناس إلى شرائه ، إما إذا طرحه للبيع ولم يغالِ في سعره فليس محتكراً .
تحريم الاحتكار :
ذكر الشيخ سيد سابق --رحمه الله- أن الاحتكار المحرم هو الذي تتوفر فيه شروط ثلاثة هي:
1- أن يكون الشيء المحتَكر فاضلاً عن حاجته([13]) وحاجة من يعولهم سنة كاملة؛ لأنه يجوز أن يدخر الإنسان نفقته ونفقة أهله هذه المدة، كما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- أن يكون قد انتظر الوقت الذي تغلو فيه السلع ، ليبيع بالثمن الفاحش لشدة الحاجة إليه .
3- أن يكون الاحتكار في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى المواد المحتَكرة، من الطعام والثياب ونحوها، فلو كانت هذه المواد لدى عدد من التجار ، ولكن لا يحتاج الناس إليها فإن ذلك لا يعد احتكاراً ، حيث لا ضرر يقع على الناس"([14]).
وسار الصحابة -- رضوان الله عليهم - على منهج الرسول في تحريم الاحتكار ومقاومته، خاصة ما كان منه في أقوات الناس، أما الجالب للطعام أو المنتج له، والذي لا يهدف إلى الاستغلال، ويقتصر تعامله على البيع والشراء فله الحق في التجارة وفق احتياجات الأسواق، وعدم فرض أية أسعار عليه قد يترتب عليها نقصان في الربح المستهدف، فضلا عن الخسارة التي لا يصح أن تكون عقاباً لجهد التاجر الصدوق، فعن يحيى عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: "لا حُكْرة في سوقنا، لا يَعْمد ُُُُُُُُُُُرجال بأيديهم فضول من أذهاب، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرونه علينا. ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء، وليمسك كيف شاء"([15])، فالفاروق -- رضي الله عنه- يعطي التاجر الصدوق مساحة من الحرية، يحقق بها مستوى معقولاً من الكسب، تفعيلا لمتطلبات الحياة، وبدون فرض أسعار محددة عليه .
ورُوي عن مالك، أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان ينهي عن الحُكْرة"([16]).
فالحُكرة، وهي الاحتكار منهي عنها؛ لتحريم الاستغلال والكسب الفاحش، وحبس الأطعمة عن طالبيها؛ انتظارا لبدء الأزمة ورفع السعر .
التسعير
إن أساس التعامل في البيع والشراء هو الاحتكام إلى نظرية العرض والطلب، وإقرار حق البائع في الكسب المقبول بدون نسبة ثابتة، وبذلك تكون القيمة متحركة وغير محددة، ولا يلجأ أولو الأمر إلى فرض تسعيرة واحدة للشيء المعروض للبيع، وربما كان في ذلك إضرار بالتاجر الأمين الصادق ، الذي لا يلوث تجارته بغش أو خداع في القيمة وزمن الصلاحية ودرجة الجودة والنقاء ، ولذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم، التسعير ، وقد ورد أن الأسعار قد غلت في عهده ، فقالوا سعِّر لنا ، قال: "إن الله هو القابض الباسط الرازق المُسعِّر، وإني لأرجو أن ألقي الله --عز وجل- وليس أحد منكم يطالبني بمظلمةٍ ظلمتها إليه في دم ولامال"([17]).
ويجوز لولي الأمر --عند الضرورة- أن يقدر سعراً مناسباً للأطعمة والأشربة وسائر المستلزمات الضرورية، مع وضع نسبة معقولة من الربح، وحتى لا يكون الاحتكار هروباً من التسعر والبيع في الخفاء بأسعار مرتفعة، ولربما كان الاحتكار ناشئاً لعدم وجود سعر ثابت ومحدد للسلعة ، وترك الثمن لأهواء التجار الراغبين في الثراء على أية حال، وما دام ولي الأمر قد اختار تحديد أسعار للأقوات والحاجات الضرورية فلابد من العمل --قدر الجهد- على توفير المتطلبات الحياتية، بزيادة المعروض منها، فينخفض السعر، ويخفق المحتكرون ويكون التسعير اضطرارياً وبدون ظلم لأي من البائع والمشتري .
ونؤكد أهمية اعتماد التجار على الصدق والأمانة ، وعدم ممارسة الاحتكار، والرضا بالكسب العادل، حتى تتلاشى الكراهية بين الناس، وتعم المحبة والمودة والرخاء .
دكتور/ السيد محمد الديب
([1]) البقرة 275.
([2]) رواه البهيقي والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .
([3]) المطففين 1- 4 .
([4]) ملتقى أهل الحديث (موقع إليكتروني) .
([5]) رواه أحمد والطبراني ، وعُظْم الشيء: أكثره ومعظمه ، وقول الرسول : "بعظم من النار" أي بكثرة من النار .
([6]) رواه ابن ماجة والحاكم .
([7]) حديث صحيح عن أنس رضي الله عنه .
([8]) رواه مسلم وأبوداود والترمذي .
([9]) رواه البيهقي في شعب الإيمان .
([10]) موقع ملتقى أهل الحديث .
([11]) الروم 41 .
([12]) رواه مسلم (2963) كتاب الزهد والرقائق ، تزدروا: تحقروا ، قال ابن جرير وغيره: "هذا حديث جامع لأنواع من الخير" .
([13]) عن حاجته: أي عن حاجة التاجر المحتِكر .
([14]) فقه السنة ، ج3، ص163 .
([15]) الموطأ ، طبع دار الشعب ، ص404، باب الحُكْرة والتربص ، وجاء بهامشه : الحُكرة اسم من احتكر الطعام إذا حبسه، إرادة الغلاء ، والتربص: والانتظار، ويعمد: يقصد، فضول: زيادة عن أقواتهم ، وأذهاب جمع ذهب ، وهو مكيال معروف باليمن ، وقوله : على عمود كبده: أراد به ظهره ، أي أنه جاء به على تعب وشقة .
([16]) الموطأ ، ص404 .
([17]) رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة .