كان وجود عبدالله بن عبد المطلب إيذاناً بولادة جديدة للإنسان على الأرض، وكانت نجاته من الذبح بجوار الكعبة إلى يوم الوفاة بيثرب بعثاً لنور إلهي، بثته العناية الإلهية في أحشاء آمنة بنت وهب، حيث تسارعت الأحداث كما في مكنون الغيب، فيموت عبدالله في حياة أبيه، ثم يولد محمد عليه الصلاة والسلام، وتموت أُمُّة آمنة، ويبقى محمد عليه الصلاة والسلام على يتمه، حيث ستره الله تعالى وآواه، وقال له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (1).
1- إعادة حفر زمزم
لقد جاء الهاتف لعبدالمطلب بن هاشم في المنام ذات ليلة، آمراً إياه بحفر زمزم، تلك البئر التي تفجرت بالماء على أقدام إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ لبدء حياة جديدة في هذه البقاع الجبلية القاحلة، وكان عبدالمطلب ينسى ما أُمر به في عدة ليال، لكن الهاتف جاء مكرراً الأمر، ومُلحاً في الحفر لهذه البئر، فالحاجة للماء لازمة لأهل مكة وما حولها ولسائر الحجيج من البشر.
وقد جهل القرشيون موضع البئر، التي بقيت تاريخاً ثابتاً في ماضيهم، حيث دفنها أعداؤهم تحت الرمال، ونسى الكثيرون منهم الأحداث في حاضرهم، ثم كان التجديد بما أُمر به عبدالمطلب، وشرع فيه بعد أن جاءه الهاتف في نومه قائلاً له: "قم فاحفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تَنْدمْ، وهي تراث من أبيك الأكرم، لا يفرغ ماؤها ولا يُذم، تسقى الحجيج الأعظم.."(2).
وقال له: "إنك تجد زمزم، حيث ينقرُ الغراب الأعصم"(3)، وذلك بين الوثنين (أساف ونائلة) موضع العبادة والتقديس عند قريش. وشرع عبد المطلب، وليس معه معين إلا ابن وحيد له هو (الحارث) فتصدت له قريش، إذ أن (أساف ونائلة) لهم جميعا، وتصالح القوم معه بشروط واتفاق، ولكنه راجع موقفه، ورأى أن الكثرة من قريش قد تغلبت عليه، وعلى ابنه الوحيد، ولم يسلم من الأذى، إذ ليست له من القوة ما يدافع بها عما اختُص به، فنذر إن أنجب عشرا من البنين، أو عددا عيَّنه، وبلغوا مبلغ الرجال أن يذبح أحدهم عند الكعبة؛ قربانا للآلهة، وبقى الوعد في السرِّ مكنونا لديه، وواصل عبد المطلب الحفر لزمزم، إلى أن وجد ذهبا في شكل غزالتين، كما وجد أسيافا وأدرعاً، وهبت قريش لما لم يكن في الحسبان، وقالوا له: لنا في ذلك نصيب وحق، واشتد النزاع، فكان الرأي منه، مقترحا عليهم إجراء القرعة للفصل في هذا الأمر، بينه وبين الكعبة وبينهم، وكان الضرب على أقداح الأزلام وسيلتهم في الاستحقاق بالقرعة، فكانت الغزالتان للكعبة والأسياف والأدرع لعبدالمطلب، ولم تظفر قريش بشيئ؛ ارتضاء بما أشارت إليه أقداح الأزلام، كما يعتقدون.. "فضرب عبدالمطلب الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالتين من ذهب، فكان أول من ذهَّب حلية للكعبة فيما يزعمون"(4) وقام عبدالمطلب بسقاية الحجيج عند قدومهم كل عام؛ لقلة الماء في مكة، الواقعة بين أحضان الجبال، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في قابل الأيام: "ماء زمزم لما شرب له"(5) وعاد الوفاء بين الفرقاء.
2- الوفاء والفداء
سارت حياة عبد المطلب بن هاشم وفق نظام جاهلي قديم، محافظا على مكانته بين قومه، ومدافعا عن الكعبة قدر ما يستطيع، مع أنه ليس من أغناهم مالاً ولا من أكثرهم رجالا، ولم يغب عن ذاكرته ما كان قد عاهد نفسه عليه من النذر عند الحفر لزمزم، فكان الزواج بأكثر من واحدة سبيلا إلى ذلك، ولما بلغ أبناؤه عَشْرا أو في حدودها، ووصلوا في السن إلى ما أراد فكان الشروع في مراسم التنفيذ.
وكان ابنه عبد الله آخر من وصل العدد إليه، وكان- كما ذكر المؤرخون- ألصقهم بأبيه وأحبهم إليه، ولم يأت عبد الله سلوكاً يُغَيِّر من محبة أبيه له، ولما بلغ ثمانية عشر عاما، أو خمسا وعشرين، كان اقتراع عبدالمطلب بين أبنائه، لتحديد من سيكون مقدماً للذبح؛ وفاءً للنذر، وجاء الاستحقاق لعبدالله، بعد تكرار القرعة مما أحزن والده وآلمه، مع أنهم جميعاً أبناؤه، ولم تمتنع محبته على واحدٍ منهم إذ كانوا جميعاً في معمعة الحدث، حيث استسلموا لرأي أبيهم، الذي لن يحيد عن نذره، ولن يتوانى عن نفاذه، ولم تذكر المصادر التاريخية اعتراضاً لعبد الله على سلوك أبيه، هذا الذي لو صادف رفضاً منه لكان أمراً مقبولاً لدى أهل مكة.
وكان أمر النذر موضعاً للعجب والتساؤل، وقد كان عبدالله يمتاح من معين ميراثه العظيم، وذلك من إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، حيث تعرض إسماعيل للذبح بسكين من أبيه، ولكن الله سبحانه وتعالى فداه بِذبح عظيم، والأمر بحق عبدالله مقلق ومزعج، فلا هو ولا أبوه من الأنبياء، إذ أن عبدالمطلب عاقدٌ العزم على الوفاء، وابنه عبدالله راضٍ بما حكمت به الآلهة، إذ احتسب نحره قرباناً لها، فلا يصح الخروج عليه.
وخرج عبدالمطلب في اليوم المحدد، ومعه أبناؤه وكثير من أهله، وبعض رجالات قريش، وشاهدوا بداية الأحداث، حيث أوثق عبدالمطلب ابنه بالجبال، وألقاه على الأرض، ليشرع في التنفيذ، ولكن الناس ثارت عليه، وهبُّوا فزعين، إشفاقاً على عبدالله، وتخوفا من أن يكون ذلك سبيلا إليهم، وقالوا لعبدالمطلب: "والله لا نتركك تفعل ما تريد، ما لم تجد من ذلك بُدًّا ... لئن فعلت هذا وأنت سيدنا وكبيرنا، لا يزال الرجل منا يأتي بولده فيذبحه مثلك، ويصبح ذلك عادة في قريش فما بقاء الناس على هذا"(6)، وخاطبهم عبدالمطلب بقوله: لقد نذرت نذرا ولابد من الوفاء به، وقالوا له: لن نتركك تفعل ما لم تُعذر في ذلك، بمعنى أن تبحث عن حل ينقذ عبدالله من هذا المصير، ونحن معك إلى الخلاص مما أوقعت نفسك فيه، وتحير في الأمر واستبشر أبناؤه وجميع أهل مكة بالخير، إذ يصعب على رجالهم ونسائهم أن يحدث الإفناء لعبدالله أمام أعينهم، وبدت بشارات الخير تلوح في الأفق بعد تصاعد الأمل في النجاة، وكان الاقتراح بعرض الأمر على عرافة في خيبر، مشهود لها بالعمق والتبصر، والحكمة في الإفتاء، ولعلها تجد لعبدالمطلب مخرجا مما ألزم نفسه به حيث سار وجمع معه، وعبدالله في الموكب، متطلعا إلى الأمل في النجاة، والابتعاد عن الذبح اللعين، حتى وصلوا إلى العرافة المعنية حيث تكون، وذكرُوا لها القصة من البدء إلى أن وصلوا إليها، وسألتهم عن دية الرجل الذي قُتل لديهم، فقالوا: عشرا من الأبل، فقالت لهم: لابد من إجراء القرعة بين عبدالله والعشر من الإبل فإن خرجت القرعة على الإبل ذبحت للإفداء، وإن خرجت على عبدالله فزيدوا عشرا أخرى، فإن خرجت عليها فاذبحوها، وإن خرجت على عبدالله فزيدوا عشرا أخرى، وزادوها، وتواصل خروج القرعة على عبدالله إلى أن بلغت الإبل مائة فأصابتها القرعة، وتقررت النجاة لعبدالله، وعاد عبدالمطلب ومن معه إلى مكة، وسارع في التنفيذ لنحر الإبل بتمامها، وتركها لا يُصد عنها إنسان أو حيوان، وعمّ الفرح أرجاء مكة، فكانت الأغاني والأناشيد فَرَحاً بهذه النجاة التي اشتمل السرور بها قريشا كلها.
3- زواج عبدالله من آمنة بنت وهب
لم يتوان -عبدالمطلب كثيرا- بعد نجاة عبدالله، وراجع نفسه ممن يزوجه إياها، والابن مطيع لأبيه، إذ أنه من أسياد قومه، وصاحب الرأي والمشورة فيهم، وكان الاختيار لإحدى فتيات مكة، وهي: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وعبدالله من أينع شباب مكة، وأميزهم خلقاً وجمالاً، وأن أباه يريد الإسراع بهذا الزواج؛ ليزيل من أعماقه ما ألمّ بها من خوف وفزع، وحتى تعم البهجة جوانب مكة بعدما تعلقت أمنياتهم على ضرب القداح على الأزلام، التي جعل المكيون لها اعتباراً لم يتخلصوا منه في قابل الأيام إلا بالإسلام.
وخرج عبدالمطلب من داره قاصداً بيت وهب بن عبدمناف شيخ بني زُهرة، ومعه عبدالله، الذي يتوهج إشراقاً وضياء، وكانت آمنة متطلعة إلى مستقبل ترفرف عليه أجنحة السعادة لهذا الزواج المزمع إتمامه، بعد أن بزغت أنواره، وكان الحوار بين الأبوين الذي انتهى بالموافقة على الزواج دون اشترطات أو مؤجلات، ودُعيت قريش لتشهد الخِطبة والزواج من آمنة لعبدالله، وسارت الأمور المتفق عليها سيراً حسناً، وأقام عبدالله في منزل آمنة ثلاثة أيام، وكان ذلك سُنَّة لهم عند دخول الرجل على امرأته في أهلها، ثم انتقل الزوجان إلى بيت عبدالله في أحد أطراف مكة، وعاشا في بهجة وسرور بعد زمن الألم والبكاء، وسَعد عبدالله بعروسه في بيته تحوطه مع آمنة رعاية الأهل وفرح الأخلاّء إلى أن كان التأهب الرحيل.
وأوردت المصادر القديمة والمراجع الحديثة ما كان بحق عبدالله قبل زواجه، إذ تعرضت له بعض النسوة اللائي يرغبن فيه، ويتطلعن إلى حملِ وليدٍ منه، وأشهر من ورد ذلك بحقه اثنتان هما: قُتيلة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل، والثانية: فاطمة بنت مر الخثعمية، وهذه كانت كاهنة (7) وكانتا ترغبان فيه لنور يشع من وجهه تبصرنه فيه، ولديهما رغبة جامحة في أن يثرى هذا النور إلى حمل منه إليهما، فلما تزوج عبدالله من آمنة انطفأ ذلك النور، فأعرضن عنه عند مروره بهما مُنقّباً عن دوافع هذه الرغبات، والتي ربما استندتا إليها من أقوال الحنفاء في مكة كورقة بن نوفل، ومن على شاكلته، الذين استقر في وعيهم أن نبياً سيبعث من مكة في هذا الزمان بمواصفات تحدثوا عنها وأفاضوا بها، وتحسسوها –فيما يظنون- في عبدالله بن عبدالمطلب.
4- التجارة والموت
خرج عبدالله من بيته إلى القافلة التجارية المقرر رحيله بها إلى غزة بالشام، بعد أن ودع آمنة، وأودع لديها نوراً يمثل آخر عطاءات الله تعالى للبشر، فقد حملت بمحمد عليه الصلاة والسلام، خلال الأيام التي قضاها معها على أرض مكة، وخرج بعد الشهرين تاركاً نعومة العيش، ورغد الحياة، إلى خشونة السفر ومتاعب الرحلة بين غياهب الصحراء، ومضى قرابة شهر كانت آمنة قد استبشرت خيراً بحملها، الذي شُغلت به دون انصراف عن الغائب بالسفر للتجارة واستمرار الحياة.
وقام عبدالله بإتمام رحلته للتجارة مع رفقاء السفر والرحيل، وعادت القافلة، وكان مرورها بيثرب التي مرض عندها عبدالله، واشتد المرض به بما يعيقه عن العودة مع القافلة، فبقى مريضاً في رعاية أخوال أبيه من بني عدي بن النجار، وتحركت القافلة صوب مكة، دون أن تشتمل على عبدالله، ولما وصل المسافرون كان السؤال عن غيابه حيث أصابهم الوجوم، وسيطر عليهم الحزن الأليم، وعلموا بمرضه في يثرب، فبقى الأمل لديهم في رجوعه بعد الشفاء من المرض الذي تأذى عبدالله به، وحزن على نفسه، وعلى زوجته في ظل الغياب؛ ثم كانت الوفاة وعمره في حدود خمسة وعشرين عاماً، دون أن يدرك تماماً أن آمنة قد حملت بمن سيكون نبياً ومرسلا لهداية الناس جميعاً، والذي تأكد يتمه من قبل مولده.
وكانت الحالة في مكة قابضة للأنفاس وغير مريحة للأبدان، وازداد القلق لدى عبدالمطلب؛ خوفاً على مصير ابنه عبدالله، فبعث إليه بالحارث أكبر أبنائه؛ ليقف على حالته في يثرب على أمل البُرء والاستشفاء، ولكن الحارث وجده قد مات، ودفنه الأخوال في مقابرهم، وعاد الحارث إلى مكة، وهو معبأ بالحزن واللوعة والأسى والحسرة على أخيه، فأخبر أباه بما جرى فحزن عبدالمطلب عليه، إذ كان محبوباً لديه وقريباً منه، وقد ازدادت أماله فيه بعد فدائه ونجاته، وزواجه من آمنة بنت وهب، تلك السيدة الوضيئة الوقور، التي ألمت الأحزان بها بموت عبدالله، فعكفت على الاستشفاء بذكرياتها معه، والارتواء من عبق سيرته العطرة، ولكن الأمر ليس بيدها، وبقى الأمل في سلامة الجنين الكائن في رحم الغيب، فاستعانت بالصبر الجميل، الذي تقوت به من غوائل الزمان.
دكتور/ السيد محمد الديب
(1) الضحى 6.
(2) البداية والنهاية لابن كثير، ج2، ص246، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة.
(3) سيرة النبي العربي لأحمد التاجي ج2، ص36، طبع مصطفى الحلبي (398هـ)، (1978م).
(4) البداية والنهاية لابن كثير ج2، ص246.
(5) المسند 3 /372، وابن ماجة 2/1018 ورواه آخرون.
(6) سيرة النبي العربي ج1 ص43.
(7) انظر البداية والنهاية، لابن كثير، ج2، ص250.