توطئة:
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في انتظار للوحي الكريم يأتي إليه من الله تعالى من خلال جبريل عليه السلام في غار حراء، ولم يكن على وعد لدعوة جبريل إلى الإسراء والمعراج، فالإسراء: حدث مفاجئ في مسيرة الدعوة الإسلامية، لم يترتب عليه تغيرٌّ واضح في موقف المحيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم، والمستقبلين لرسالته، ولكن الهدف الأسمى والغاية القصوى من هذه الحادثة هو الاتساع العلمي والمعرفي لإدراكاته صلى الله عليه وسلم بالرؤية البصرية لفضاءات الكون الفسيح، أو الرؤيا القلبية التي تعمقت بالمشاهدات المتعددة في الأرض والسماء، وذلك ما تأكد بيانه في صياغات قرآنية بسورتي الإسراء والنجم، كما تأتي انتقالاً بالدعوة إلى مرحلة عامرة بالسمو، والاقتراب من الله تعالى في ملكوته الأعلى بما تعجز عنه إدراكات البشر.
فالإسراء والمعراج: رحلة مستهدفة بالمشاهدات، وتقريب للمسافة بين الأديان الإلهية مع احتفاظ كل رسالة بشرعها ومنهجها، فمتطلبات التبليغ للدعوة الإسلامية تستلزم الإمداد بجرعات من الإعداد للرسول صلى الله عليه وسلم بما يزيد من تأهيله لحمل الأعباء، التي لن تقتصر على بعض المعاندين في مكة، وإنما ستتسع باستمرار النزول للقرآن الكريم، ومواجهة العديد من الكيانات في يثرب الطيبة بعد الهجرة إليها.
زمن الإسراء:
تحدث القرآن الكريم عن الإسراء بصورة صريحة مباشرة في الآية الأولى من السورة التي سميت بهذا الحادث العظيم، ثم جاء البيان عن المعراج بصورة مؤولة قريبة التلقي والاستيعاب في سورة النجم، ولذلك بيان وتفصيل.
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ....، والإسراء "سورة مكية" إلا ثلاث آيات منها نزلت في مناسبات لاحقة، اتسعت كتب التفسير في بيانها.
وتبدأ هذه السورة بتسبيح الله تعالى وتنتهي بحمده، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة أو بستة عشر شهراً، وفرضت الصلاة في تلك الليلة.
و(سبحان) علم على التسبيح، وانتصابه كما يقول النحاة بفعل مضمر من جنسه، أي سبَّح سبحان، ومعناه: "التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى، لا يصلح لغيره"([2])، وذلك من إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لطلحة بن عبيد الله عن معنى سبحان الله.
وتعطي هذه الكلمة إشعاراً بعظمة الله وتفرده، وارتقائه عن النظير ولا تقال بحق غيره، وهي: "أول ما تقع على الذهن تعطي الإنسان طاقة قوية، تُبعد عنه كل شبهة مقارنَة، والتي تأتي بين قانون المادة الأرضية الإنسانية وبين قانون الله سبحانه وتعالى"([3])، والإسراء هي السورة الوحيدة التي بدأت بكلمة (سبحان) مع أنها وردت بالقرآن ثماني عشرة مرة، بمواضع مختلفة منها الآية الأولى في سورة النحل، فضلاً عن التعدد لكثير من مشتقات الكلمة.
ومستحق التسبيح كما في الآية: [الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا]، وأسْرَى، سَرَي أي: سار ليلاً، وقيل: أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار في آخره.
وظاهر قوله: [بِعَبْدِهِ] أن الإسراء بروح الرسول صلى الله عليه وسلم وجسده؛ لما ترتب عليه من المرائي الحسية، ويتأكد ذلك بحديث الرسول عن مشاهداته، ومعارضة قومه له عند حديثه لهم عن هذا الإعجاز، والذين يدركون حقيقة القدرة الإلهية لا يستبعدون ذلك في مقام النبوة وما تمنح من عطاءات فوق قدرة البشر، إذ تتيح الربوبية الكثير من المشاهدات في عوالم الغيب، وهذا هو الرأي الراجح، بينما يرى جماعة اعتماداً على فهم الأدلة وأقوال بعض الصحابة أن الإسراء كان رؤيا منامية، فحلت الروح محل الجسد، ورؤيا الأنبياء حق، فالمشاهدات حادثة في الحقيقة سواء أكانت من خلال البصر أم الفؤاد.
وقوله: [لَيْلًا] أي: في بعض الليل حيث جاءت الكلمة "نكرة"؛ لتقليل مدة الإسراء، ولأن فيه معنى البعضية، وذلك من مكة المكرمة إلى بيت المقدس بالشام، وذُكرت [لَيْلًا] بعد إفادتها في [ أَسْرَى ] تثبيتاً في نفس المخاطب، وتنبيهاً على أنه مقصود بالذكر([4]).
والإسراء في الوضع الإنساني مسيرة أربعين ليلة أو ثلاثين، ويلي ذلك المعراج من المسجد الأقصى إلى السموات العلا وسدرة المنتهى، والتي عندها جنة المأوى، وكان ذلك بعد العشاء، ورجع صلى الله عليه وسلم في ليلته، وقيل: أسرى به من دار أم هانئ بنت أبي طالب، وعليه يكون المراد بالمسجد الحرام: الحرم، وذلك لإحاطته بالمسجد من سائر الجهات.
المبدأ والمنتهى في الإسراء:
ذَكَرت الآية أن المبدأ للإسراء من المسجد الحرام بمكة، وأن المنتهى في المسجد الأقصى أو بيت المقدس بالشام، ولذلك حكم وعظات، قال تعالى : [مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى].
وقد وضع المسجد الحرام قبل آدم عليه السلام وهو من الناس والوضع هنا بمعنى التحديد وهو خلاف رفع القواعد والإقامة، قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وغابت معالم البيت، ثم جاء إبراهيم عليه السلام فرفع قواعده، وأقام بناءه، وساعده، ابنه اسماعيل عليه السلام، قال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.
أما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس، وسمى بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، فلم يكن حينئذ وراءه مسجد، وله علاقة قدسية مع موسى وعيسى وأنبياء بني إسرائيل.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء خاتماً، ورسالته إلى العرب وغيرهم: "إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء عالمياً، فإسراؤه من مكة إلى بيت المقدس، كأنه أدخل بيت المقدس في مقدسات دينه، وهذه العملية توضح بأن دينه مهيمن على كل البقع"([7])، فبيت المقدس من المقدسات الإسلامية.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ"، إذ لم يوضع بيت للعبادة قبل البيت الحرام، وأما التحديد الزمني فغير واضح القياس، الذي يختلف مع الأزمان، وفي الدنيا والآخرة.
وقد بنى سليمان بن داود عليهما السلام المسجد الأقصى، وفي بنائه كلام كثير واختلاف متعدد الآراء، أما أفضل المساجد فقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء –أو بيت المقدس"([8]).
وقد ذكرت الآية وصفاً للمسجد الأقصى، فقالت: [الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] والمعنى في ذلك –كما قال الزمخشري قدّس الله سِرَّه- "يريد بركات الدين والدنيا؛ لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة"([9]).
وقد ربط هذا الانتقال بين المسجدين.. بين مكة التي أُسرى منها، وطور سيناء التي ارتقى في سمائها، حيث كلم الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام، وبيت لحم موضع ولادة المسيح عليه السلام، وبيت المقدس، حيث كان اللقاء في المسجد الأقصى، وذُكر أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى إماماً لبعض الأنبياء والرسل برفقة الملائكة الكرام، وما لهذه الأمكنة المقدسة من دلالات في تقريبها بين الأديان المتعاقبة في الزمان والحاصلة في المكان.
وقالت الآية: [لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا] أي: لنرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتحول في الذكر من الغيبة إلى التكلم؛ لتعظيم تلك البركات والآيات، وقرئ "ليريه" بالياء، لكن الالتفات في الخطاب يعطي بعض الدلالات على التخصيص والتنبيه، مع أن الإعجاز في القرآن متسع وشامل" وقال القرطبي في بيان المراد.. "والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة، وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء، ووصفه الأنبياء واحداً واحداً حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره"([10]).
وهذا الشق من الآية يعطي بياناً لحكمة الإسراء أو بعض حِكَمه، على أن الرؤية هنا بظاهر الآية في مقام الإسراء من مكة إلى الشام في ليلة واحدة، لكن هذه المشاهدات أحدثت فتنة بين الناس، ابتداء عند الحديث عنها في صبيحة اليوم التالي، وذلك ما ذكرته آية أخرى بذات السورة وهي قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي امتحاناً واختباراً لصدق إيمانهم.
وكانت تلك الرؤى داعمة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التبليغ، وهي جزء من عموم المرائي في الإسراء والمعراج، كما قال تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ولا يتحقق تمام الإعجاز لمشاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم لو كانت مناماً بروحه، لكنها في مقام المعراج تتداخل الروايات فيها بما يثير حولها بعض الشبهات وما يعتورها من خلافات.
وجاءت بعض المشاهدات التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم غير محددة الوقت والكيفية بصورة قاطعة فمتى رآها؟ هل في الإسراء ذهاباً ورجوعاً، أم في المعراج صعوداً وهبوطاً؟ ولعل في ذلك دلالات واعتبارات، ثم تتضخم الآيات الكبرى في المعراج إلى سدرة المنتهى، والتي عندها جنة المآوى، لكن المستهدف الأعظم من كل ذلك هو تمام الإعداد لرسول الله بما شاهد وعلم، إلى جانب فرض الصلاة، وذلك من الإضافات لكمال رسالته.
ثم تنتهي الآية بقول الله تعالى: [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]، والسميع: أي لأقوال محمد عليه الصلاة والسلام، والبصير بأفعاله، بتهذيبها وخلوصها فيكون الكرم من الله تعالى، والاقتراب منه على حسب ذلك، وكتب ابن كثير عن ختام هذه الآية فقال: "أي السميع لأقوال عباده، مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم، فيعطي كُلاَّ مايستحقه في الدنيا والآخرة"([13]).
والأقرب أن تتسع دلالات هذه الخاتمة فتشمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر عباد الله تعالى.
وجاءت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمعة وجامعة بين الإسراء والمعراج، التي يكتمل بيانها بالنظر إلى ما ورد في سورة النجم، وما يعقب الحادث من توافقات واعتراضات، والله تعالى أعلى وأعلم، وللحديث بقية.
دكتور/السيد محمد الديب
Sayed.Addeeb@hotmail.com
([1]) الإسراء 1.
([2]) تفسير القرطبي، ج10، ص204، "طبعة دار الكتب المصرية".
([3]) الإسراء والمعراج، لداعية الإسلام محمد متولي الشعراوي ص14، "هدية مجلة الأزهر رجب1420هـ".
([4]) الكشاف للذمخشري، ج2، ص437، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، طبع الحلبي.
([5]) آل عمران 96.
([6]) البقرة 127.
([7]) الإسراء والمعراج للشعراوي، ص31.
([8]) خرّجه مالك من حديث أبي هريرة.
([9]) تفسير الكشاف، ج2، ص437.
([10]) تفسير القرطبي، ج10، ص212.
([11]) الإسراء 60.
([12]) النجم 18.
([13]) تفسير القرآن العظيم، ج5، ص4، محقق طبع دار الشعب.