إضاءة:
لقد عرض القرآن الكريم للإسراء بصورة مباشرة صريحة، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وأوردت الأحاديث النبوية الإسراء والمعراج معاً؛ إذ كانا في جزء من ليلة واحدة، بروايات مختلفة فيها الصحيح والضعيف.
وكلام الله تعالى هو الأثبت نصّاً وإعجازاً، ولم يَجمع بيانه بين الإسراء والمعراج في سورة واحدة، فالنص في الأول صريح، ومؤول في الثاني يحتاج إلى قدر عالٍ من الإيمان لقبوله وتصديقه وعدم الشك في حدوثه، ولم يرد بيان المعراج في سورة قرآنية باسمه، إذ جاء عرضه في سورة مكية هي "النجم".
وتبدأ بالقسم به بصفته إحدى مخلوقات الله تعالى، التي أقسم ببعضها في سُور كثيرة، وناسب هذا القسم والمقُسْم به ما جاء في بدايات السورة عن المعراج، وهو السُّلم ذو الدَّرج، الذي يُصعد عليه، لكن المعراج جمعاً يتحول إلى دلالات أخرى في سورة تسمى "المعارج".
لقد جاء الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان رفيقاً له في الإسراء، ورفيقاً لروحه أو لبدنه في المعراج، فلزم التنويه إليه، وبيان خصائصه، ورؤية الرسول له على الأرض وفي السماء.
سورة النجم:
يراد بالنجم: الثريَّا، وهو اسم غالب عليها، وهَوَى: غَرب، أو يكون معناه أرضياً، النبات إذا سقط على الأرض.
وبدأ الخطاب بعد القسم موجهاً إلى قريش، وهم مستقبلو الدعوة المحمدية، بالتزكية ونفي الضلال والغىّ عنه، فيما يتصل بحديثه عن القرآن، الذي لايصدر عن هواه ورأيه، إنما هو وحي يأتي إليه من الله تعالى القائل: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ.
ثم يأتي الذكر لجبريل عليه السلام، قال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ أي ملك شديد القوى، والقوة: دلالة على التمكن وإحكام النفوذ والغلبة، أي ليس سهلاً يُستهان به، وقد يكون ذلك مناسباً لحال المخاطبين بالقرآن الكريم عند بدء نزوله، لكن هذه القوة لا تُلغى الحصافة في العقل والرأي والدين، وهذا هو المستقى من قوله تعالى: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ أي على صورة نفسه الحقيقية، لأنه عندما كان يهبط بالوحي كان ينزل في صورة (دِحْية الكلبي)([5]) .."وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جُبل عليها فاستوى في الأفق الأعلى، وهو أفق الشمس فملأ الأفق، وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين، مرة في الأرض، ومرة في السماء"([6]).
بيان المعــراج
يبدأ بيان المعراج استنباطاً وتؤويلاً من قوله تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ أي اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلق به عليه في الهواء، وصار قريباً منه بمسافة أقرب من مقدار قوسين عربيتين، ثم تقول السورة: فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ أي أوحى الله تعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل ما أوحاه إليه: قد يكون من غير القرآن الكريم، وقيل أوْحَى، إليه: "إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حنى تدخلها أمتك"([9])، ويتجه البيان في المعراج إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه لقومه عن رؤية فؤاده لجبريل عند بدء المعراج من الأرض، وذلك قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ.
وقيل: رآه بعينه، وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق، ولذا لا ينبغي مجادلته ومعارضته في حديثه عما رآه، قال تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ.
والخطاب مستمر في توجيهه إلى قريش، وهم معاندو الرسول ومجادلوه بعد البعثة النبوية، قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ويمكن أن تكون هذه النزلة درجة أخرى للمعراج، التي شاهد الرسول فيها جبريل للمرة الثانية على صورة نفسه، وقال بعض المفسرين: إن هذه الرؤية كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم لله تعالى، وأن نفي التكذيب للفؤاد في القول برؤية الرسول لربه تعالى ببصره أو بقلبه، وأن القول الأغلب والأرجح هو أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه تعالى غير محققة، وليس لإثباتها أدلة قوية تعضدها، وأن الرآي المختار ما أثبتناه وهي من الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام.
ونعرض لما ذكره الإمام أحمد بهذا الشأن قال: حدثنا يحيي عن إسماعيل، حدثنا عامر قال: أتى مسروق عائشة فقال: يا أم المؤمنين، هل رأي محمد –صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجلّ؟ قالت: سبحان الله. لقد قفّ([13]) شعري لما قلت، أين أنت مِن ثلاث من حدثكهنّ فقد كذب: من حدّثك أن محمداً رأي ربه فقد كذب، ثم قرأت لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ.
ومن أخبرك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت: إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ.. الآية، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم، فقد كذب، ثم قرأت: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ. ولكنه رأي جبريل في صورته مرتين"([18]).
وفي رواية أخرى يصل سندها إلى مسروق قال: كنت عند عائشة فقلت: أليس الله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: "إنما ذاك جبريل" لم يره في صورته التي خُلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض، ساداً عُظْمَ خلقه ما بين السماء والأرض"([21]) أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به([22]).
وجاء في رواية أن الله تعالى نور فكيف يراه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن قتادة عن عبدالله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: هل رأيت ربك؟ فقال نور أنّي أراه"([23]) أي غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته، وجاءت مع هذه رواية ثانية قال الرسول فيها: "رأيت نورا"([24]) كما أوردت بعض الروايات إثبات الرؤية بالفؤاد مرتين، أي إن الرؤية بالبصر غير محققة، وفي المسألة روايات كثيرة، وأراء متعددة، يظهر فيها الاختلاف، ونكتفي بما أوردناه.
ويتواصل البيان بتحديد الرؤيا من الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، اعتماداً بأن الله تعالى جعل بصره صلى الله عليه وسلم في فؤاده، وذلك كما قالت السورة: عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ.
والسدرة: شجرة نبق عظيمة في السماء السادسة أو السابعة عن يمين العرش، ولها مواصفات في ضخامتها، وضخامة ثمارها وأوراقها، حيث تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله عز وجلّ في كتابه الكريم، وهي منتهى الملائكة، وقيل تنتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل تنتهي إليها أرواح الخلائق وأعمالهم، وما ينزل من فوقها، ويُصعد من تحتها، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى، وعندها الجنة التي يأوى إليها المتقون، أو أرواح الشهداء، وكل ذلك في نطاق الغيب الذي لا يعلم مداه إلا الله تعالى.
ويُستكمل بيان "الشجرة" بقول الله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ، وذلك "تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد عُلم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله أشياء لا يكتنقها النعت، ولا يحيط بها الوصف، وقد قيل يغشاها الجمُّ الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها"([27])، وقيل: يغشاها فَرَاش من ذهب، والأقوال في وصفها كثيرة.
قال تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ أي ما زاغ بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ما عدل يميناً ولا شمالاً، ولا تجاوز الحد الذي رأى، أو ما جاوز ما أُمر به، قال القرطبي –رحمه الله- "لم يمد بصره إلى غير ما رأي من الآيات، وهذا وصف أدب للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت يميناً ولا شمالاً"([29]) وما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أُعْطَى، وذلك في مقام هذه المنازل العالية غير المدركة لأفهام البشر، بعد أن انتهت الصحبة مع جبريل عند سدرة المنتهى، وربما خطا الرسول درجات أقرب إلى عرش الرحمن الرحيم.
وقيل إن أمر البصر وعدم طغيانه يتصل بمقام الرؤية لله تعالى، وليس من الصياغة ما يؤدي إلى ذلك، وارجع الشيخ محمد متولي الشعراوي مسألة التصديق لأمر المعراج لليقين الإيماني، أو مدى تسليمك بالمقدمة التي تلي النتيجة، لأنك ما دمت مؤمناً، فستقول: ما دام صنع به كذا فيما أعلم.. إذا.. هو يصنع به كذا فيما لا أعلم..، لأنه حين يكون قد طرق له القانون، يكون قد خرق له القانون.."([30]).
وتُختتم آيات المعراج بقوله تعالى: لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ أي رأي بعض آيات ربه الكبرى حين ترقى بالسماء، وشاهد عجائب الملكوت، فالرؤيا على العموم بلا تحديد، والتي تتسع بها إدراكات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكونات رسالته لزوم التبليغ، وذلك كقوله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى.
والكبرى: أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا، وقال ابن كثير بشأن ما يتصل برؤية الله تعالى: "وبهاتين الآيتين استدل مَنْ ذهب من أهل السنة أن الرؤيا تلك الليلة لم تقع، لأنه قال: [لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ] ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك الناس"([33]).
ختام القول:
لقد أُسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده، أو بروحه من خلال رؤيا منامية، من البيت الحرام بمكة إلى بيت المقدس بالشام، برفقة جبريل عليه السلام، والتقى الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض الأنبياء والمرسلين، وصلى إماماً بهم في المسجد الأقصى، وبقيت روحه صاعدة بين درجات السماء، حتى ارتقى إلى سدرة المنتهى، وبقى متلقياً بلاغ الله له في فرض الصلاة عليه وعلى أمته، وآبت روحه من معراجها القويم إلى المسجد الأقصى، ثم رجع في رحلته الأرضية إلى حيث كانت البداية، ونام في فراشه، إلى نهاية ليلته.
وخرج في اليوم التالي إلى قومه، وحدثهم عما شاهده في الأرض والسماء، وأنه التقى ببعض الأنبياء، وبلغ سدرة المنتهى، إلى آخر المرويات في ذلك فكذّبوه وسخروا منه، ومما رواه جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه"([34])، ووصف لهم كل ما شاهده، وأخبرهم عن جميع ما سألوا عنه، واستمروا على تكذيبهم له، وحَدَث ما هو أبعد من ذلك، حيث ارتد فريق منهم، وهم أصحاب القلوب الضعيفة التي لم يستقر الإسلام بها، ولا يمثلون –بهذا الضعف- وزنا في بداية الدعوة الإسلامية، أما أبو بكر فقد اتجهوا إليه وسألوه عن رأيه عما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم منتظرين منه الإنكار والرفض، لكنه فاجأهم بتصديقه لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا لقب بالصديق، وانصرفت اهتمامات الرسول إلى تعميم طريقة الآداء للصلاة عن طريق جبريل عليه السلام.
وتحفل السنة النبوية بعشرات الأحاديث النبوية عن رحلتي الإسراء والمعراج وبها الصحيح وغيره([35])، والله أعلم.
دكتور/السيد محمد الديب
Sayed.Addeeb@hotmail.com
([1]) الإسراء 1.
([2]) النجم الآيات 2، 3، 4.
([3]) النجم 5.
([4]) النجم 6.
([5]) دحية بن خليفة الكلبي: صحابي من الأنصار، وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة أحد وما بعدها، واشتهر إلى جانب العقل الراجح بجمال الصورة والوضاءة والطول، وكان جبريل عليه السلام يأتي على صورة أقرب إلى صورته، وذكره الرسول لبعض الصحابة في حديث جبريل، وتزوج دُرّة بنت أبي لهب بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنقل كثيراً بين عدد من البلدان، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً منه إلى هرقل، عندما جاء إلى القدس، وقد نزل دحية دمشق وسكن المزّة، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه.
([6]) تفسير الكشاف، ج2، ص29.
([7]) النجم 8، 9.
([8]) النجم 10.
([9]) تفسير الكشاف، ج4، ص29.
([10]) النجم 11.
([11]) النجم 12.
([12]) النجم 13.
([13]) قفّ شعري: أي وقف.
([14]) الأنعام 103.
([15]) الشورى 51.
([16]) لقمان 34.
([17]) المائدة 67.
([18]) مسند الإمام أحمد، ج6، ص49، 50، وجاء ذلك بتفسير ابن كثير، ج7، ص427، "محقق" طبع دار الشعب.
([19]) التكوير 23.
([20]) النجم 13.
([21]) مسند الإمام أحمد، ج6، ص241.
([22]) البخاري تفسير سورة النجم، ومسلم كتاب الإيمان باب معنى قوله تعالى:[وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ]، والنص في تفسير ابن كثير.
([23]) مسند الإمام أحمد 5/ 147 "النص في تفسير ابن كثير".
([24]) مسلم "كتاب الإيمان" باب في قوله عليه السلام "نور أني آراه" "النص في تفسير ابن كثير".
([25]) النجم 14، 15.
([26]) النجم 16.
([27]) الكشاف، ج4، ص29.
([28]) النجم 16.
([29]) تفسير القرطبي، ج17، ص97.
([30]) الإسراء والمعراج ص35.
([31]) النجم 18.
([32]) طه 23.
([33]) تفسير ابن كثير، ج7، ص430.
([34]) رواه البخاري ومسلم وابن حبان وغيرهم.
([35]) يراجع –لمزيد من المعرفة- تفسير ابن كثير لأول سورة الإسراء، وبه العديد من الأحاديث، التي تتعدد رواياتها بين الصحة والحُسْن والضعف.